- في موقف عصيد من عقوبة الإعدام: “داء العطب قديم”
تحديد المفاهيم خارج التاريخ، تلك هي الآفة القديمة لأحمد عصيد. تحديد المفاهيم خارج ترابط وتناقض وتحول التاريخ، ذلك هو المنهج المثالي الذي يحرم عصيد من تصور الظواهر تصورا تاريخيا، مهما حاول التظاهر بمظهر الواقعي الذي يرفض “مثالية الإسلاميين”. فالمثالية ليس تركيزا للطوبى في “دولة الإسلام” فحسب، بل إنها قد تكون تركيزا للطوبى في “مملكة حقوق الإنسان ومدينة التنوير الفاضلة” أيضا.
ليس أحمد عصيد في حاجة إلى من يذكره بحدّ القاتل في الإسلام، فهو يتذكر ذلك جيدا. وليس في حاجة إلى من يخبره بأنّ “المغرب دولة دينها الإسلام”، كما ورد في دستور 2011 م، فهو يدعو إلى “الفصل بين الدين والدولة”. وليس في حاجة إلى من يخبره بأصالة الإسلام في الشعب المغربي، فهو يدّعي وجود فرقٍ بين “إسلام الشعوب” و”إسلام الإسلاميين”… إلخ. إنه ليس في حاجة إلى كل ذلك، بقدر ما هو في حاجة إلى نقد منهجه في التحليل والتفسير واتخاذ المواقف. لا بد من إيقافه على “الرجعية” التي لا يخلو منها “خطابه التنويري” (كما يزعم)، وعلى “أدلوجته الوضعانية” و”تفاسيره القاصرة” و”إنسانيته العولمية الاستعمارية”… إلخ. وكلّه متجلّ في مواقف عصيد من الأحداث، وفي تفسيره للظواهر.
في موقف أحمد عصيد من “عقوبة الإعدام”، يدلي بالآتي:
– عقوبة الإعدام عقوبة لا إنسانية، وهي لا تتناسب و”حقوق الإنسان الكونية”.
– لا بد من التماس الأعذار للمجرم، بغرض التخفيف من عقوبته، وذلك نظرا للظروف التي أدّت به إلى أن يصبح مجرما.
– الحل لا يكمن في تنفيذ عقوبة الإعدام أو الحكم بها، وإنما يكمن في حسم عروق الإجرام في الأسرة والشارع والمدرسة والمجتمع المدني… إلخ.
– إشكاليتنا هي إشكالية داخلية، حيث المعركة بين “التيار الحداثي” و”التيار الإسلامي”، وكل نقاش فهو ينتمي إلى هذه الإشكالية، بما في ذلك نقاش “عقوبة الإعدام”.
2-في مراجعة القول ب “لا إنسانية عقوبة الإعدام”
“الإنسان” بالنسبة إلى أحمد عصيد هو “إنسان عالمي” لا خصوصية له، بل إن له -في نظره- خصوصية واحدة، هي خصوصية “المزوغية وما تبرره من استعمار”. لا يختلف أحد في أن الإنسان “عالمي” من حيث جهازيه الفيزيولوجي والسيكولوجي، إلا أنه ليس كذلك في زمنه ومكانه. فالمستعمِر ليس هو المستعمَر، والبورجوازي ليس هو العامل، والأوروبي ليس هو الإفريقي، ورأسمالي القرن 16 م ليس هو رأسمالي القرن 19 م… إلى غير ذلك من التمييزات التي يجب استحضارها كلما أردنا تحديد ما نقصده ب”الإنسان” تحديدا دقيقا. وإذا كان الإنسان كذلك، فإن القول ب”كونية حقوق الإنسان” مجرد “طوبى” لن تتحقق إلا بالخروج من تاريخ الصراع الطبقي. وبالتالي، فما يعتبره عصيد تفوقا حقوقيا للغرب، ما هو إلا تسويق لنموذج حقوقي “رأسمالي عولمي” في بلدان تواجه الاستعمار والتبعية.
وهكذا، فإن “الحكم على “عقوبة الإعدام” انطلاقا من “النموذج الحقوقي الرأسمالي” حكم مرفوض من أصله. فإما أن نناقش هذه “العقوبة” في علاقتها ب”الإنسان المغربي”، تاريخا وذهنية وظروفا نفسية واجتماعية واقتصادية وسياقا ثقافيا… إلخ؛ وإما أن نسقط في إيديولوجيا “الإمبريالية الجديدة” بمحاكمة “تشريعنا الجنائي” لتشريعات رأسمالية لا يجب أن تكون مثالا لنا في شرطنا التاريخي.
3- مسؤولية المجرم وحماية المجتمع: تطاول عصيد على تخصصات بالغة التعقيد والتداخل
المجرم نتاج ظروف فيزيولوجية واجتماعية ونفسية، والتماس الأعذار له واجب، ومعاقبته قانونيا شرّ لا بد منه. إنك بقراءتك لتشيزري لومبروزو، تكاد تعذر المجرم بكونه مجرما بالفطرة، بدائيا وجد نفسه بين أناس متحضرين. وإنك باطلاعك على ما يكتبه السوسيولوجيون كإميل دوركايم، تكاد تعذره بكونه نتاج مجتمع، ولذلك تنتشر بعض الجرائم في مجتمعات دون أخرى. أما بقراءتك لفرويد، فإنك ستكتشف أن المجرم ليس إلا سجينا للاوعيه، وهو في حاجة إلى العلاج النفسي أكثر مما هو في حاجة إلى العقاب… إلخ.
هل كل المجرمين مجبرون حقّا؟ ألا يتحمّلون ولو جزءا من المسؤولية عما يقترفونه من جرائم؟
وكيف السبيل إذن إلى التوفيق بين حق “إنسان مُجبر” وحق “مجتمع يطلب الأمن والاستقرار وحفظ المِلكيات”، في حالة خضوع “الفعل الإجرامي للمجرم” لعامل “الجبرية”؟
بأي وسيلة سنحمي المجتمع من مجرم “مجبر” (عند تحقق عامل “الجبرية”)؟ وبأي وسيلة سنردع من قد تسول له نفسه اقتراف جريمة ما، في واقع مجتمعاتنا لا خارجه؟
وكيف السبيل إلى ضمان “حقوق الأفراد” و”حماية المجتمع” في الشرط المغربي لا خارجه؟
هذه هي الأسئلة التي يجب على عصيد الإجابة عليها، أما التعلق ب”الطوبى” ودراسة حالة المجرم دراسة “وصفية وضعانية”، فيجيدهما كل أحد. وعوض أن يجيب عصيد على هذه الأسئلة، فإنه يتكلم في تخصصات بالغة التعقيد والتداخل من غير خبرة. التشريع الجنائي، سيكولوجيا الإجرام، سوسيولوجيا الإجرام، علوم الدماغ والأعصاب، تاريخ المغرب، فقه الجنايات ونوازله… إلخ؛ تلك هي العلوم التي تفصل في مسؤولية المجرم من عدمها، وتحدد العقوبة الرادعة من غيرها، وتضمن تنزيل العقوبة والقبول بها في مجتمع له شروطه الخاصة.
4- حسم عروق الجريمة: في آنها وعلى المدى البعيد
إن التأكيد على العقوبات الزاجرة والرادعة، لا يعني إهمالنا لباقي مداخل حسم عروق “الإجرام”، التربوية منها والنفسية والاجتماعية والثقافية والسياسية… إلخ. إلا أن عصيد يسعى إلى افتعال تناقض إجرائي بين الجانبين، الأمر الذي يؤدي به إلى المطالبة بتخفيف عقوبة الجاني مهما كانت جرائمه بشعة.
وإننا لنتساءل: إذا كان الجاني غير مسؤول عن جرائمه، وقد ارتكبها وهو خاضع لظروفه الفيزيولوجية والسيكولوجية والاجتماعية، فبأي وجه حق سيعاقبه القانون ولو بتخفيف عقوبته؟ لا بد إذن من استحضار عنصر آخر في هذه الإشكالية، هو المجتمع. لا بدّ من التوفيق بين حقوق الأفراد وحقوق المجتمعات، في الشروط التاريخية الخاصة لكل منها. ولا بدّ من التمييز بين حسم عروق الجريمة في آنها، وبين حسم عروقها تربويا وثقافيا واجتماعيا على المدى البعيد. أمن المعقول أن نترك الإجرام بلا رادع، منتظرين يوما يتخلص فيه المجتمع المغربي من أمراضه النفسية ومشاكله الاجتماعية؟ إنها “مثالية” عصيد تتكلم مرة أخرى، “مثالية” لا تستحضر المجتمع إلا في حدوده الدنيا، ولا تحكم على العقوبة إلا في قسوتها. والحقيقة، أن المجتمع أقوى من الأفراد، فيه تتشكل أخلاقهم وقيمهم ومشاكلهم وأفكارهم، وفيه تتحدّد العقوبة الزجرية الرادعة لهم. وعليه، فإن رفض عقوبة قاسية من أجل الرفض فقط، موقف نابع عن هوى. فلا هو بموقف مشرع القانون، الذي يشترط في العقوبة أن تكون رادعة. ولا هو بموقف رجل الدولة، الذي ينزع إلى حفظ أمن الدولة. ولا هو بموقف السوسيولوجي، الذي يناقش العقوبة في مدى ضبطها للمجتمع. ولا هو بموقف السيكولوجي، الذي يميز بدقة بين من يتحمل مسؤولية أفعاله وبين من لا يتحملها… إلخ.
5- عقوبة الإعدام على ضوء إشكالياتنا التاريخية
ليس هناك أي تناقض بين الإسلاميين والعلمانيين، كما هو مُروَّج لذلك. بل إن هناك في الأصل تناقضا بين “عولميين حداثيا وإسلاميا” من جهة، وبين “وطنيين حداثيا وإسلاميا” من جهة أخرى. وقد يصبح الإسلاميون جميعا وطنيين في ملفات من قبيل: القضية الفلسطينية، وحماية اللغة العربية الفصحى، وتحصين الأسرة، ومواجهة تفكيك الدين… إلخ. والحداثيون أنفسهم قد يصبحون جميعا وطنيين في ملفات أخرى من قبيل: مكافحة الإرهاب، الدعوة إلى إصلاح الرأسمال الوطني… إلخ.
ليس هناك تناقض بين إسلاميين وعلمانيين في الأصل، مهما حاول “الإعلام الاستعماري” تضخيم هذا التناقض الزائف. إن التناقض، على ضوء إشكالياتنا التاريخية المغربية، قائم بين: من مع مصالح الوطن ومن ضدها. هل إشكاليتنا هي إشكالية حق وطن في الاستقلال أم حق مجرم يجب مراعاة ظروفه الخاص؟ هل هي إشكالية استكمال الانتقال الديمقراطي أم إشكالية حق “الحداثويين” في الدفاع عن الحقو الكونية للمجرم؟ هل هي إشكالية حفظ الأمن والاستقرار ووحدة الدولة وتماسك المجتمع أم إشكالية فتح نقاش في الأصول الاجتماعية والنفسية والفيزيولوجية للمجرم؟ هل إشكالية اقتصاد وطني يجب تحريره من التبعية للرأسمال الأجنبي أم إشكالية مجرم أجرم خاضعا لفاقته الاجتماعية؟… إلخ.
إن اهتمامنا بالإشكاليات الأولى لا يعني إهمالنا للثانية، وإنما هو تقدير على ضوء شرطنا التاريخي: الاستعمار الجديد.