قواعد وأصول وضعها العلماء لفهم النصوص الشرعية

 العبرة بعموم اللَّفظ لا بخصوص السَّبَب
 وجوبُ العمل بظواهر النُّصوص
 ردُّ المتشابه من النُّصوص إلى المحكَم
 جمعُ النُّصوص الواردة في الباب الواحد

كان للسَّلف قواعدُ ومبادئُ يسيرون عليها في فهمهم للنُّصوص الشَّرعيَّة، وأوَّلُ مَن جَمَعَ هذه القواعد وبيَّنَها وشرحَها الإمامُ الشَّافعيُّ في كتابه [الرِّسالة] الذي كان نواةً لما أُلِّف بعده من كتب علم [أصول الفقه].
والتي تُعنَى بجمع القواعد التي تضبط استنباطَ الأحكام الشَّرعيَّة من نصوص الكتاب والسُّنَّة؛ ولذلك يشنُّ أصحابُ بدعة [إعادة قراءة النَّصّ] حملةً شعواء على الإمام الشَّافعيِّ وكتابه الرِّسالة؛ يقول أركون عن الإمام الشَّافعيِّ وكتابه الرِّسالة: «قد ساهم في سجن العقل الإسلاميِّ داخلَ أسوار منهجيَّة معيَّنة» (تاريخية الفكر العربي الإسلامي 74).
ويقولُ عن تحديد الإمام الشَّافعيِّ لمصادر التَّشريع الإسلاميِّ بأنَّها الكتابُ والسُّنَّةُ والإجماعُ والقياسُ: «هذه هي الحيلةُ الكبرى التي أتاحت شيوعَ ذلك الوهم الكبير بأنَّ الشَّريعةَ ذات أصل إلهيٍّ» (تاريخية الفكر العربي الإسلامي 297).
وأمَّا الشَّرفيُّ فيُصرِّحُ قائلاً: «من غير المقبول اليومَ أن نتمسَّكَ بمنهج الشَّافعيِّ الأصوليِّ؛ إذ فهمُ الكتاب والسُّنَّة على نحو فهم الشَّافعيّ وتأويلُه لا يؤدِّيان إلا إلى مأزق منهجيٍّ لا عهدَ للأسلاف به» (لبنات لعبد المجيد الشرفي:143).
ويطالبُ أصحابُ هذه المدرسة بوضع قواعد جديدة لأصول الفقه.
يقول الجابري: «إنَّما نريد أن يتَّجه تفكيرُ المجتهدين الرَّاغبين في التَّجديد حقًّا والشَّاعرين بضرورته فعلاً إلى القواعد الأصوليَّة نفسها، إلى إعادة بنائها بهدف الخروج بمنهجيَّة جديدة تواكب التَّطَوُّرَ الحاصلَ» (وجهة نظر:63).
ويقولُ كذلك مبرِّرًا دعوتَه إلى تغيير علم أصول الفقه: «ولا شيءَ يَمنع من اعتماد قواعد منهجيَّة أخرى إذا كان من شأنها أن تحقِّقَ الحكمةَ من التَّشريع في زمن معيَّن بطريقة أفضل» (وجهة نظر:62).
والهدفُ من هذه الدَّعوة التَّفلُّت من القواعد والضَّوابط التي وضعها العلماء للاستنباط؛ حتَّى يتسنَّى لهم العبث بالنُّصوص الشَّرعيَّة كما شاؤوا.
وسنذكر باختصار بعضَ القواعد التي وضعها العلماء لفهم النُّصوص الشَّرعيَّة، منها:

1- العبرة بعموم اللَّفظ لا بخصوص السَّبَب
هذه القاعدة نصَّ عليها عامَّةُ العلماء؛ فقد تقع حادثة فتنزل في شأنها آية، أو يرد بسببها حديث، ويكون لفظُهما عامًّا يشمل تلك الحادثةَ وغيرَها؛ فالواجبُ حينئذ العمل بعموم لفظ الآية أو الحديث، لا أن يُجعل الحكمُ خاصًّا بذلك السَّبب.
فالأمَّةُ مجمعةٌ على أنَّ آيات الحدود، والكفَّارات، والمواريث، والنكاح، والطلاق، وغيرها، عامَّةٌ لجميع الأمَّة، مع أن بعضَها نزل في أقوام معيَّنين.
وأصحابُ القراءة الجديدة يَرفضون هذه القاعدة رفضًا باتًّا، ويرون تخصيصَ الآيات والأحاديث بأسباب نزولها.
ونتيجة هذه القراءة: التَّحَلُّلُ من الأحكام الشَّرعيَّة؛ لأنَّ القرآنَ نزل لأسباب معيَّنة، وقد انقضت تلك الأسباب وانتهت؛ وبالتَّالي سينتهي معها العملُ بالقرآن!!
يقول أحدُهم عن آيات الولاء والبراء: «لا مناصَ من الإقرار بصحَّة الشَّهادات القرآنيَّة المقدَّمة من قبَل أنصار عقيدة الولاء والبراء؛ لأنَّها نصوصٌ واضحةٌ فصيحةٌ لا تَحْتَمل تأويلاً؛ لكنَّها تحتملُ تفسيرًا ربَّما كان هو الأصدق ممَّا يقدِّمه أنصارُ الكراهية والدم.
إنَّ هذه الآيات لا يمكن بحال تعميمُ معناها في الزَّمان المطلَق، والمكان المطلق، بحجَّة قاعدة: «العبرة بعموم اللَّفظ لا بخصوص السَّبب»؛ فالآياتُ تحدِّثنا عن زمن بعينه، وظرف بعينه؛ فمنعاً لوصول أسرار الدَّولة النَّاشئة عبرَ حالة عاطفيَّة بين أخوين أو أيّ رحمين، فقد نهى القرآنُ عن موالاتهم نصًّا ولفظًا ومعنى واضحًا كلَّ الوضوح يربط الآيات بزمنها وظروفها ومكانها، وليس بعد ذلك أو قبلَه أبدًا».
ثم يقول: «يمكن القولُ بملء الفم: لا لقواعد الفقه البشريَّة؛ مثل قاعدة: العبرة بعموم اللَّفظ لا بخصوص السَّبب، ولا لقاعدة: لا اجتهادَ مع النَّصِّ» (مقال بعنوان: نظرية أن كل مسلم إرهابي؛ سيد القمني).

2- وجوبُ العمل بظواهر النُّصوص
من القواعد التي قرَّرَها أهلُ العلم في فهم النُّصوص فهمًا صحيحًا: أنَّه يجب العملُ بما دلَّ عليه ظاهرُ النَّصِّ؛ ما لم يرد دليلٌ صحيحٌ يدلُّ على أنَّ هذا الظَّاهرَ غيرُ مراد.
قال الشَّافعيُّ رحمه الله: «والقرآنُ على ظاهره حتى تأتي دلالةٌ منه، أو سنَّةٌ، أو إجماع، بأنَّه على باطن دونَ ظاهر» (الرسالة 580).
وقال: «ليس لأحد أن يُحيل منها ظاهرًا إلى باطن، ولا عامًّا إلى خاصٍّ إلَّا بدلالة من كتاب الله؛ فإن لم تكن فسنَّة رسول الله، أو إجماع من عامَّة العلماء… ولو جاز في الحديث أن يُحالَ شيءٌ منه عن ظاهره إلى معنى باطن يحتمله، كان أكثرُ الحديث يَحتمل عددًا من المعاني، ولا يكون لأحد ذهب إلى معنى منها حجَّةٌ على أحد ذهب إلى معنى غيره، ولكنَّ الحقَّ فيها واحدٌ؛ لأنَّها على ظاهرها وعمومها، إلا بدلالة عن رسول الله، أو قول عامَّة أهل العلم بأنَّها على خاصٍّ دونَ عامٍّ، وباطن دون ظاهر» (اختلاف الحديث 1/480).
وكثيرًا ما يقرِّرُ شيخُ المفسِّرين الإمامُ القرطبيُّ رحمه الله في تفسيره هذا المعنى قائلاً: «وغيرُ جائز تركُ الظَّاهر المفهوم إلى باطن لا دلالةَ على صحَّته» (تفسير الطبري 1/15).
فالواجبُ إبقاءُ نصوص الكتاب والسُّنَّة على ظاهرها وعمومها وإطلاقها؛ ليس لأحد أن يحيلَ فيها ظاهرًا إلى باطن، ولا عامًّا إلى خاصٍّ، ولا مطلَقًا إلى مقيَّد، إلا بدليل من كتاب الله تعالى أو سنَّة الرَّسول صلى الله عليه وسلم الصَّحيحة، أو إجماع العلماء.
ولو قُدِّرَ أنَّ المتكلمَ أراد من المخاطَب حملَ كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته من غير قرينة ولا دليل ولا بيان، لصادم هذا الفعلُ مقصودَ الإرشاد والهداية، ولكان تركُ الخطاب خيراً له وأقربَ إلى الهدى من تكليفه بصرف الكلام عن ظاهره بغير دليل وتعريضه لفتنة اعتقاد الباطل بالحَمل على الظَّاهر (انظر الصواعق المرسلة 1/310).

3- ردُّ المتشابه من النُّصوص إلى المحكَم
والمحكَم: ما لا يَحتمل من التَّفسير إلا وجهاً واحدًا.
والمتشابه: ما احتمل أَوجُهاً كثيرة. (البحر المحيط 2/85).
وقد أمر الله عز وجل بردِّ المتشابه إلى المحكَم فقال: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران:7].
قال ابنُ كثير رحمه الله: «يخبر تعالى أنَّ في القرآن آيات محكمات هنَّ أمُّ الكتاب؛ أي: بيِّنات واضحات الدِّلالة، لا التباسَ فيها على أحد من النَّاس.
ومنه آيات أُخر فيها اشتباه في الدِّلالة على كثير من النَّاس أو بعضهم؛ فمَن رَدَّ ما اشتبه عليه إلى الواضح منه، وحكَّمَ محكمَه على متشابهه عندَه، فقد اهتدى، ومن عكس انعكس» (تفسير ابن كثير 2/6).
وتركُ المحكم والاعتمادُ على المتشابه يؤدِّي للضَّلال؛ فقد رَدَّ الخوارجُ والمعتزلةُ النُّصوصَ المحكمةَ الصَّريحةَ في إثبات الشَّفاعة بما تشابه من قوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48].
وردَّ الجبريَّةُ النُّصوصَ المحكمةَ في إثبات مشيئة العبد وكونه قادرًا مختارًا بما تشابه عندهم من قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان:30].

4- جمعُ النُّصوص الواردة في الباب الواحد
فلا تتَّضح المسائلُ والأحكامُ حتَّى تستوفي جميع النُّصوص الواردة فيها؛ لأنَّها من مشكاة واحدة، ولا يمكن أن يرد بينها تناقضٌ ولا اختلافٌ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «… إنَّ القرآنَ لم ينزل يكذِّبُ بعضُه بعضًا؛ بل يصدِّقُ بعضُه بعضًا؛ فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردُّوه إلى عالمه» (رواه أحمد وصححه الألباني في تعليقه على شرح العقيدة الطحاوية 1/218).
فلا يجوز أن يؤخَذَ نصٌّ ويُتْركَ نصٌّ آخر؛ فهذا يؤدِّي إلى تقطيع النُّصوص وبَتْرها، وقد قال تعالى عن اليهود: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85].
وإنَّ كثيرًا من البدع والضَّلالات في القديم والحديث إنَّما ظهرت بسبب إهمال هذه القاعدة الجليلة؛ فبعضُ المبتدعة يأخذ نصًّا، ويترك نصوصًا أخرى قد تكون مخصِّصةً، أو مقيِّدةً، أو مبيِّنةً، أو ناسخةً، أو غير ذلك.
قال الشَّاطبيُّ رحمه الله: «كثيرًا ما ترى الجهَّالَ يحتجُّون لأنفسهم بأدلَّة فاسدة، وبأدلة صحيحة؛ اقتصارًا على دليل ما، واطِّراحًا للنَّظر في غيره من الأدلَّة» (الاعتصام 1/167)؛ فالخوارجُ أخذوا بنصوص الوعيد، وتركوا نصوص الوعد، ففهموها على غير مرادها، فكفَّروا المسلمين واستباحوا دماءَهم وأموالَهم.
وأَخَذَ المرجئةُ بنصوص الوعد، وتركوا نصوصَ الوعيد، ففهموها على غير مرادها، وقالوا: لا يَضُرُّ مع الإيمان معصيةٌ، كما لا ينفع مع الكفر طاعةٌ.
والجمعُ بين النُّصوص يكون بردِّ العامِّ إلى الخاصِّ، والمطلَق إلى المقيَّد، والمجمَل إلى المبيَّن، والمتشابه إلى المحكَم، وهذه طريقة الرَّاسخين في العلم.اهـ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *