الغرب ولغة المصالح أحمد زهران

هناك أسئلة كثيرة تتبادر إلى العقلية العربية هذه الأيام:
أولها: لماذا سكتت أمريكا والدول الغربية عن ثروات الرؤساء العرب إبَّان توليهم حكم بلادهم، وسارعت إلى الكشف عنها بعد تنحّيهم عن السلطة؟
وثانيها: لماذا تركت الدول الغربية رجالها وحلفاءها العرب في منطقة الشمال الإفريقي يواجهون الخلع والإبعاد من قبل شعوبهم؟
وثالثها: هل الأمر يتعلق بشفافية الحكومات الغربية أمام شعوبها؛ لتظهر طاهرة اليد والسمعة، أم أنه يتعلق بضغوط المنظمات والجمعيات الحقوقية والإنسانية في الداخل والتي تنادي بقيم الحرية والمساواة والعدالة؟
أو أنه يتعلق بمصالح سياسية واقتصادية غربية في البلدان العربية يُخشى أن تُمسّ بسوء أو ينالها الضرر، الأمر الذي يحتم عليهم غض الطّرف عن مثل هذه الأمور “الصغائر”؛ لأنها لا تعنيهم بصورة مباشرة؟

تواطؤ الدول الغربية
نيكولاس شاكسون، الخبير في الشؤون الإفريقية والملاذات الضريبية في «شاتام هاوس» البريطاني، قال في حديث لشبكة (سي إن إن): «المملكة المتحدة والولايات المتحدة وسويسرا هي الدول الثلاث الرئيسة المعروفة بغسل الأموال، وتلك الدول تريد أن ينظر إليها على أنها تفعل شيئًا”.
وقال: «لكن الصورة الأكبر هي عمليات النهب بالجملة في مصر، إذا نجحت سويسرا والمملكة المتحدة في الإفلات -بالإشارة إلى العثور على عدة مئات الملايين- فهذا يخفي قضية حقيقية وهي التواطؤ، حيث تساعد الدول الغربية القادة الفاسدين في الدول النامية على نهب مواطنيهم، لاسيما باستخدام الملاذات الضريبية السرية في الخارج، مثل جزيرة جيرسي أو جزر كايمان”.
ولا يخفى أن الدول الغربية مستفيدة من عوائد هذه الأموال (التي تُقدّر بمئات المليارات لجميع الرؤساء والحكام العرب) في إحداث تنمية حقيقية في بلادهم، ولو أضفت إليها الصناديق السيادية للدول العربية مجتمعة فأنت تتحدث عن تريليونات من الدولارات مودعة في البنوك الغربية، يستفيد منها الغرب وتُحرم منها الشعوب العربية، وبحسب منظمة الشفافية الدولية في فرنسا فهناك (50) منطقة في العالم تحولت إلى ملاذات ضريبية، فيها أكثر من (400) مؤسسة مصرفية، ونحو ثلثي صناديق الاستثمار، ونحو مليوني شركة في العالم. وتضم فيما بينها قرابة عشرة ترليونات دولار من الأصول المالية، أي ما يعادل (4) أضعاف الناتج المحلي الإجمالي في فرنسا.
التواطؤ هنا أصبح مفضوحًا، فمن أجل الإبقاء على رؤوس الأموال العربية في البنوك الغربية يتم التغاضي عن ثروات الحكام العرب وعن الكشف عنها، بل وغض الطرف عن الممارسات الديكتاتورية التي ينتهجها هؤلاء الحكام مع شعوبهم، وهو ما يظهر لنا إلى أي مدى تتلاعب هذه الدول بنا كشعوب عربية، فما يريدون إظهاره يظهرونه، وما يريدون إخفاءه يخفونه.
من هنا نستطيع أن نفهم دلالة تصريحات وزير التجارة البريطاني في المملكة المتحدة، فينس كيبل، الذي أشار في حديث إلى هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، إلى أن حكومته ستتخذ إجراءات ضد أي مصرف بريطاني تورّط في مساعدة الرئيس المصري مبارك على تحريك أمواله بشكل غير صحيح، وأن الحكومة البريطانية لن تعمل بمفردها (لاحظْ)، وأنها بحاجة إلى التأكد من أن تلك الأموال تم الحصول عليها بطريقة غير صحيحة أو بشكل غير صحيح.
وإذا كانت الأجهزة الاستخباراتية الغربية تحتفظ بسجلات سرية تتعلق بالحالة الصحية للزعماء والرؤساء العرب، وتتابع ذلك بكل تفصيلاته (لاحظ أن حالة الرئيس المصري الصحية كشفت عنها صحف صهيونية والمؤكد أن خلفها تسريبات استخباراتية)، فمن الغباء السياسي الظن بأن هذه الأجهزة الاستخباراتية لا تعرف حجم الأرصدة العربية للقادة والزعماء العرب والسياسيين ورجال الأعمال المشبوهين، بل إن مجموعة «النزاهة المالية الدولية» -وهي منظمة معنية بالأبحاث والاستشارات مقرّها العاصمة الأميركية واشنطن- صرَّحت أن (57) مليار دولار تدفقت خارج مصر في الفترة ما بين عامي 2000 و2008، وهو ما يعني أن هناك رصدًا دقيقًا لما يجري في الدول العربية على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية.

المراحل الثلاثة
والمتابع للثورتين التونسية والمصرية يلاحظ أمرًا في غاية الأهمية أيضًا، وهو أن الدول الغربية تطوّرت مواقفها عدة مرات إبان هذه الثورات، وظهرت في عدة مراحل:
المرحلة الأولى: لبست فيها الدول الغربية ثياب المعارِضة لما يحدث، بل والمسانِدة للنظام، فـ”الديموقراطية”!! من وجهة نظرهم ليست لازمة أو ضرورية للشعوب العربية، وربما كان دافعها إلى ذلك اطمئنانها إلى قدرة النظامين التونسي والمصري على التعامل مع ما تظنه أنها “أحداث استثنائية”، وأنه لم يخطر ببالها أنها ستتحول في كلا البلدين إلى ثورة شعبية بكل ما تحتمله هذه الكلمة من معانٍ.

المرحلة الثانية: بعد مضي الثورتين قدمًا، حيث تحول الموقف الغربي المساند للأنظمة إلى الوقوف على الحياد مع الترقب؛ خوفًا من نجاح الثورة المصرية على غرار سابقتها التونسية، فلا تخسر الأخضر واليابس معًا، وربما تكون لها حساباتها التي ترى ضرورة الأخذ بسياسة الإمساك بالعصا من المنتصف؛ فلا هي إلى هؤلاء، ولا هي إلى هؤلاء.

المرحلة الثالثة: شهدت تحوّلاً كاملاً في سياسة هذه الدول، فأصبحت مسايرة للوضع الجديد وداعمًة له -خاصة بعد التطورات الميدانية المتلاحقة على أرض الواقع- وبعد نجاح التجربة التونسية كانت كل الدلائل تشير إلى أن الثورة المصرية ستنجح هي الأخرى، وستفرض نفسها على الواقع، ومن ثم تصرفت الدول الغربية بسياسة من لا يلوي على شيء، باعتبار أن النظام المصري كان ورقة رابحة، إلاّ أنها احترقت وبدا عوارها للجميع..
فالغرب لا يزال يعاني حتى اليوم من تسونامي الأزمة المالية العالمية، ويواجه ضغوطًا داخلية كبيرة تطالب بتحسين الأحوال المعيشية وعدم تبديد أموال دافعي الضرائب على الحروب الخارجية والمغامرات الدولية، وخرج من يطالب بضرورة انتشار ثقافة الديموقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي، ووجوب مقاومة الديكتاتوريات الحاكمة وعدم مساندتها..
ثم مع بدء خروج الأمور في المنطقة العربية عن نطاق السيطرة الغربية إثر قيام الثورات العربية في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين وغيرها من الدول العربية، وجدت الحكومات الغربية نفسها مضطرة إلى ترك هؤلاء الحكام والقادة يواجهون مصيرهم المحتوم بالخلع والإبعاد.. وفي الوقت ذاته تعمل على مراقبة المنطقة بدقة وحذر، وتحاول قدر الإمكان التعامل بحنكة مع الواقع السياسي الجديد حتى لا تصبح كالمُنْبَتِّ الذي لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *