وصف العلامة خالد بن أحمد الناصري لنظام جيش الإسبان واستحسانه وانتقاده لكيفية قتال المسلمين للإسبان واستهجانه

إن المسلمين لم يكونوا يقاتلون على ترتيب مخصوص وهيئة منضبطة إنما كانوا يقاتلون وهم متفرقون، فإذا حان المساء تفرقوا إلى محالهم في غير وقت معلوم وعلى غير تعبئة، فكان قتالهم على هذا الوجه لا يجدي شيئا وكان العدو يقاتل بالصف وعلى ترتيب محكم، وكانت عنايته بما يستولي عليه من الأرض ويرى تقدمه إلى أمام وتأخر المسلمين بين يديه إلى خلف هزيمة عليهم.
وقد ذكر ابن خلدون في فصل الحروب قتال أهل المغرب الذي هو المطاردة بالكر والفر وعابه فقال: “وصفة الحروب الواقعة بين أهل الخليقة منذ أول وجودهم على نوعين: نوع بالزحف صفوفا، ونوع بالكر والفر. أما الذي بالزحف فهو قتال العجم كلهم على تعاقب أجيالهم، وأما الذي بالكر والفر فهو قتال العرب والبربر من أهل المغرب، وقتال الزحف أوثق وأشد من قتال الكر والفر، وذلك لأن قتال الزحف ترتب فيه الصفوف وتسوى كما تسوى القداح أو صفوف الصلاة ويمشون بصفوفهم إلى العدو قدما، فلذلك تكون أثبت عند المصارع، وأصدق في القتال، وأرهب للعدو، لأنه كالحائط الممتد والقصر المشيد لا يطمع في إزالته، وفي التنزيل {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} الصف:4 اهـ.
إن قتال النصارى كله على الإكراه، إذ لا يمكن لعسكري منهم أن يفر من الزحف حال القتال لأن الخيالة والسيافة من ورائهم يدفعونهم إلى الإمام ومن رجع منهم إلى خلف وترك في الصف فرجة ضربت عنقه في الحين، فالموت عندهم في الفرار محقق وفي التقدم مظنون، فيختارون المظنون على المحقق، اللهم إلا إذا اشتدت الحرب وحمي الوطيس واختلط الرجال بالرجال أمكن الفرار حينئذ لاشتغال الرئيس والمرؤوس كل بنفسه، وبهذا الضبط لم تتفق لهم هزيمة منذ خرجوا من سبتة.
ومن عادة العدو في الحرب أنه إذا نهض للقتال ارتحل بجميع ما في عسكره كأنه مسافر فترى العسكري منهم إذا تقدم للقتال حاملا معه جميع ما يحتاج إليه من ماء وطعام وبارود ورصاص، حتى الموسى والمقص والمرآة والصابون وغير ذلك، قد اتخذ لجميع ذلك أوعية لطافا وعلقها عليه، فلا يؤده حملها لأنه اقتصر من كل على قدر الحاجة.
وأما الأخبية فيحمل كل ثلاثة رجال خباء، ولا تلحقهم كلفة في حمله، لأن أخبيتهم في غاية اللطافة، وأعمدتها لطاف وصلبة، فهي مع كفايتها على الوجه الأتم، في غاية الخفة، بحيث إذا لف الخباء بما فيه كان كَلاَ شيء، ولو أراد أن يحمله واحد لفعل، لكنه يقسمه ثلاثة أشخاص زيادة في الرفق، ولئلا يحصل الضجر إذا طال السفر.
وأما المدافع فقد اتخذوا لها عجلات أفرغت إفراغا وركبت عليها على وجه محكم واتخذوا للعجلات بغالا خصية تجرها في غاية الفراهة والارتياض، ويجعلون فوق تلك العجلات صناديق الإقامة من بارود ورصاص وضوبلي وغير ذلك، وتجلس الطبجية على تلك الصناديق ويقوم آخرون حولهم قد أخذوا أهبتهم للقتال بكل ما يمكن.
ثم تندفع العساكر على هذا الترتيب صفوفا صفوفا وتتقدم شيئا فشيئا يخلف بعضها بعضا كأنها أمواج البحر تبرق الشمس على طموس رؤوسها، وتلمع على عددها المصقولة وآلاتها، وهو في هذه الحالة لا يفتر من رمي الكور والضوبلي والشرشم على كل جهة، هكذا قتاله أبدا، وإذا أدركه المساء أو وقعت محاجزة أثناء النهار وكان قصده الثبات ثبت بمحله ذلك ولا يتزحزح عنه بحال إلا إذا فني كل عسكره أو جله فبمثل هذا الضبط كان له الاستيلاء والظهور.
وأما مقاتلة المسلمين له فكانت غير منضبطة وإنما قاتله من قاتله منهم باختياره ومن قبل نفسه، وإن كان هنالك ضبط من أمير الجيش فكلا ضبط ومتى ظهر له أن يذهب ذهب مع أن الله تعالى يقول: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} النور 62 لكن المقاتل من المسلمين يأتي القتال وليس معه ما يأكل ولا ما يشرب فبالضرورة إذا جاع أو عطش ذهب يبحث عما يقيم به صلبه، ثم هم يقاتلون على غير صف ولا تعبية بل يتفرقون في الشعاب ومخارم الأودية وحول الأشجار فيقاتلون من ورائها، وإذا دفعوا في نحر العدو دفعوا زرافات ووحدانا، ثم إذا أدركهم المساء ووقعت المحاجزة ذهب كل إلى خبائه الذي تركه وراءه بمسافة بعيدة، وهم في هذا كله ليس لهم وازع يحملهم على ما يراد منهم.
فالحاصل أن جيش مغربنا إذا حضروا القتال وكانوا على ظهور خيولهم فهم في تلك الحال مساوون في الاستبداد لأمير الجيش لا يملك من أمرهم شيئا، وإنما يقاتلون هداية من الله لهم وحياء من الأمير وقليل ما هم وقد جربنا ذلك، ففروا عن السلطان المولى سليمان في وقعة ظيان أولا وفي وقعة الشراردة ثانيا.
وكان السلطان المولى عبد الرحمن أهيب في نفوسهم منه، فكانوا يلزمون غرزه لكنه لما بعثهم إلى تلمسان فعلوا فعلتهم وسلكوا عادتهم، ولما شهدوا مع الخليفة سيدي محمد بن عبد الرحمن وقعة إيسلي جاؤوا بها شنعاء غريبة في القبح، فقد أوتوا من عدم الضبط الذي هو كضبطه، فعدم ملاقاتهم للعدو في الكيفية القتالية هو الذي أضر بهم وأوجب لعدوهم الظهور عليهم، إذ الشيء كما علمت إنما يقاوم بمثله، والشر إنما يدفع بضده، فالتنافي إنما يحصل بين الضدين أو المثلين، وحربنا وحرب الإصبنيول كان من باب الخلافين ولا تنافي بين الخلافين كما هو مقرر في علم الحكمة والتوفيق إنما هو بيد الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *