عجيبة هي حقًا أمور المسلمين ـ خاصة العرب منهم ـ في الوقت الحاضر تتألق أمامهم الحقائق في وضح النهار، فيتركونها للبحث عنها في غياهب الظلمات.
وينطبق هذا الوضع المحيّر على الأزمة المفتعلة حاليًا في جنوب العالم الإسلامي في الأزمة التي تعرف بقضية دارفور، فعلى الرغم من الظهور الجلي للأسباب الحقيقية وراء افتعال تلك الأزمة من قبل العالم الغربي انسياقًا وراء أمريكا، نجد الكثير من قادة الرأي في العالم العربي يجهدون أنفسهم في البحث والتحليل لأسباب وهمية غير أساسية وراء اشتعال الأزمة، وفي محاولة وضع تصوُّر للخروج منها “بسلام”.
نعم، هناك العديد من الأسباب والدوافع المحركة لهذه الهجمة الشرسة والتكالب المخيف على السودان، إلا أن هذه الدوافع والأسباب في أفضل حالتها يمكن أن تكون غير أساسية أو تابعة للسببين حقيقيين، ألا وهما الدافع العقدي ومسلسل تضييق الخناق على العالم الإسلامي، واللهث وراء المكاسب الاقتصادية.
إن توسيع نفوذ الإمبراطورية الأمريكية وما يتطلب ذلك من استمرار لتدفق مخزونات النفط من شتى بقاع الأرض، خاصة مع الحديث عن الاكتشافات المستمرة للذهب الأسود في السودان، بالإضافة إلى إغلاق بوابة العرب المطلقة على أفريقيا وحرمان العرب من سلة الغذاء الواعدة هناك، وإضعاف مصر بالتحكم في مياه النيل، وأيضًا ما أعلنه خبراء جيولوجيون يعملون في شركة نفطية غربية كبرى أن واشنطن والدول الغربية الكبرى حريصة على التدخل في السودان بسبب اكتشاف كميات ضخمة من “اليورانيوم” في منطقة “حفرة النحاس” بدارفور، يمكن أن يكون ذلك ضمن أسباب الانقضاض الأمريكي على السودان، إلا أن تلاقي الدافع العقدي والاقتصادي يبقى هو المحرك الأساسي للحملة.
ومن العجيب أن يترك المسلمون جوهر القضية وينشغلون بما يروجه مخططو الحملة على السودان، مثل مزاعم المقابر الجماعية والإبادة الجماعية ومعاناة اللاجئين ودور “الجنجويد” في ذلك ودعم الحكومة لهم، والأفضل حالاً منهم يحاولون تفنيد تلك المزاعم وإظهار الصور الحقيقية للأزمة، وأنها لا تعدو كونها صراعًا بين قبائل حول مراعي استغلَّها الغرب لافتعال أزمة وحجّة وهمية.
الإعلام الغربي وتزوير الحقائق
ليس معنى ذلك أنه لا توجد أزمة لاجئين ومعاناة في دارفور، لكن تلك المعاناة ليست هي التي يصورها الإعلام الغربي وتروج لها ـ بقصد أو بدون ـ بعض وسائل الإعلام العربية، وهذا ما كشفته بعثة أطباء مصريين ذهبت لمساعدة اللاجئين، لكنها فوجئت بصورة مغايرة لما كانت تراه في وسائل الإعلام.
وأوضح الطبيب منصور حسن رئيس البعثة أن الوفد الطبي الذي التقى بمجموعة كبيرة من السيدات في المعسكرات، وقام بإجراء فحوص طبية على حوالي 17 ألف مريض، لم تصادفه أية حالات اغتصاب كما لم يتقدم أي فرد للشكوى من وقوع شيء كهذا له.
وأضاف حسن الذي يشغل منصب الأمين العام لنقابة الأطباء بالإسكندرية في تصريح لإحدى القنواة العربية: ” لقد أخذنا معنا أدوية ومستلزمات طبية ضد إصابات الحروق وتكسير العظام الناتجة عن الحروب, لكننا فوجئنا بعدم وجود أية حالات من هذا النوع اللهم إلا حالتين مضت عليهما 6 أشهر”.
وكشف الطبيب منصور حسن ممارسات منظمات الإغاثة الأجنبية العاملة في دارفور التي تتناقض مع العمل الإغاثي، منها قيام المفوضية العليا لشؤون اللاجئين بنقل بعض النازحين إلى معسكر مهمل في مدينة “الفاشر” عشية زيارة الأمين العام للأمم المتحدة “كوفي أنان” حتى تبدو أحوال هؤلاء النازحين في غاية السوء، لكن الحكومة السودانية أحبطت هذه المؤامرة وتمت إعادة النازحين إلى معسكراتهم الأصلية.
ويكشف الطبيب المصري واقعة أخرى دارت أحداثها في معسكر “مورني” بالقرب من معسكر “الجنينة”، حيث سعت المنظمات الإغاثية إلى منع النازحين من العودة طواعية إلى قراهم استجابة لدعوة الحكومة للمزارعين لكي يعودوا إلى قراهم قبيل موسم الزراعة.
وفي تفنيد لمزاعم الإعلام الغربي، تحدث الطبيب منصور حسن حول قيام ممثلي وسائل الإعلام الغربية بتصوير المقابر الخاصة بتلك المناطق والكائنة أصلاً، بزعم أنها مقابر جماعية.
وفي ختام تصريحاته أوضح رئيس البعثة الطبية المصرية أن قضية دارفور ليست بهذا القدر من التضخيم كما يصورها الإعلام الغربي.
وهذه المزاعم هي الحجج الجديدة لتبرير توسعات الإمبراطورية الأنجلو-أمريكية، ويطالب بذلك منظرو الجمعية “الفابية البريطانية” المنتجة لفكر حزب العمال وحكومة “توني بلير”، حيث يطالبون بضرورة تنحية قضية أسلحة الدمار الشامل والحرب على الإرهاب جانبًا كذريعة لشن الحروب الاستباقية وتغيير الأنظمة، خاصة بعد الفضائح الكبيرة التي برزت في حربي أفغانستان والعراق، والتوجه نحو التدخل العسكري وتغيير الأنظمة لأسباب إنسانية وبسبب انتهاكات حقوق الإنسان فيها.
لماذا الهروب من الحقيقة؟
إذا كان الأمر كذلك، فلماذا نحاول الهروب من مواجهة تلك الحقيقة، أو بمعنى أدق، لماذا يحاول البعض أن يبعدنا عن تلك الحقيقة؟
إن تحييد المسلمين وتصوير الصراع مع الدول الاستعمارية الجديدة على أنه صراع مصالح وحدود.. وأي شيء غير أنهم يندفعون من منطلق عقيدتهم، كان هو السبب المباشر في ظهور الاحتلال الصهيوني واحتلال أفغانستان والعراق وجميع الكوارث التي حلت بالعالم الإسلامي.
وعلى الرغم من أن “بوش” أعلنها صريحة قبل ذلك في قوله: “إنها حرب صليبية”، فهل يتم تحييد المسلمين تجاه السودان كما حدث في العراق؟!
لأن النتيجة الحتمية لمعرفة المسلمين لحقيقة الصراع هي ما أعلنه تنظيم يسمى “جيش اللواء الإسلامي” في أول بيان له، هدد فيه بشن حرب ضارية ضد القوات الأجنبية، وتوعد بجعل البلاد جحيمًا على الحملة الصليبية الجديدة، مؤكدًا أنه لا ينبري للدفاع عن حكومة الإنقاذ أو سواها، وأن للسودان خبرة في قتال الصليبيين منذ عهد المهدية، كما التزم بإعلان الجهاد واستنفار المسلمين في بقاع العالم منذ اليوم الأول لدخول القوات الأجنبية في السودان.