مدينة سبتة عروس الضفة المتوسطية* ذ- مولاي المصطفى البرجاوي

حقًّا لقد مرَّت منطقة الغرب الإسلامي بفترات طويلة من الصراع مع إسبانيا النصرانية، منذ سقوط آخر مملكة إسلاميَّة في الأندلس (غرناطة سنة1492م) وخروج المسلمين من الأندلس، وبقيتْ آثار هذا التاريخ المشترك تُلقي بظلالِها على العلاقات المُعاصرة بين الطرفين؛ إذْ لا تزالُ بعضُ القضايا الشائكة عالقةً بينَهُما، لا سيَّما مدينتا سبتة ومليلية اللَّتان تقعان في شَمال المغرب والجزر المحيطة به.
وتُعَدُّ مدينة سبتة والثغور المحتلة إلى اليوم (مليلية والجزر الجعفرية) إحدى مخلفات المجابهة بين العالم الإسلامي وأوربا الكاثوليكية في فترة الحروب الصليبية في القرن الخامس عشر الميلادي، والتي كان البحر المتوسط مسرحًا لَها، فمنذُ وقتٍ طويل ارتبط مصيرُ المدينتَيْنِ بِالمضيق البحريّ العام الذي يربط المتوسط بالمحيط الأطلسي، وقد دفعَتْ مدينة سبتة طوال مرحلة المواجهة بين أوربا والعالم الإسلامي من خلال الحملات الصليبية ثمنَ موقعِها الجغرافي الإستراتيجي، الذي جعلها بوابة العالم الإسلامي للزحف على أوربا، ومنفذ الصليبيين لإحكام السيطرة على أراضي الإسلام..1

* أهمية مدينة سبتة الاستراتيجية والعلمية عامل أساس في الاحتلال:
– جغرافيًّا: تقع في أقصى الشمال الغربي للمغرب، وتحتل موقعًا استراتيجيًّا بالغ الأهمية، فهي شبه جزيرة مطلَّة على حوض البحر الأبْيض المتوسّط، وعلى بوغاز جبل طارق، يُحيطُ بِها الماء من الجهات الثلاث الشَّمالية، والشَّرقية، والجنوبيَّة، ولا يَفصِلها عن السَّواحل الأندلسيَّة سوى 21 كيلو مترًا، وطولها من الشرق إلى الغرب 1000م، ومن الشمال إلى الجنوب 1500م. تمتد مساحة سبتة الحالية في حدود 20,12 كلم2 ويبلغ محيطها 28 كيلو مترًا، 20 كلم من هذا المحيط تشكل شريطًا بحريًّا، والباقي 8 كلم يمتد غربًا عبر الشريط الأرضي المتصل بالحدود المغربية.
– وتاريخيًّا: شهدَتِ المنطقةُ فتراتٍ تاريخيةً زاهية.. جعلها محطَّ أنظار الإمبرياليين؛ ومن ثَمَّ احتلها البرتغاليون عام 1415م، وبعد ذلك الإسبان عام 1580م.
لم تكن حاضرةُ سبتة لتتعرَّض للاحتلال البرتغالي ثم الإسباني، ويطبق عليها ليلُ الاستخراب الذي عمَّت غياهبُه مختلفَ معالم الهوية الإسلامية مسخًا وتشويهًا! وحوَّلت المدينةَ الشعلة إلى كومة رماد، بعد أن أخلى معظم أهلها وشرَّدهم، ودمَّر عمرانَها، واختلس مدَّخراتِها؛ لولا قدرُ الله، ثم تناحُرُ أهلها، ثُمَّ بوصْفِها إحدى منارات الإشعاع الفكريّ والعلميّ، وذروة للتوسع العمراني، ويظل الموقع الإستراتيجي من العوامل الأساسية؛ إذ تقع مدينة سبتة الساحلية في شبه جزيرة متَّصلة بأقصى شرق الغرب المغربي، وتبعد عن أقرَبِ نقطة بأوربا باثنَيْنِ وعشرين كلم، كما سجل التاريخ بكونها كانت مركزًا عسكريًّا حصينًا بِحُكم تضاريسِه الحدوديَّة، لهذا قدَّر الله -سبحانه وتعالى- أن تلعب دورًا متميزًا ورياديًّا في تاريخ العلاقة بين المغرب والأندلس كممرٍّ وكقاعدة بحرية.
أمَّا دورُها في الميدان الاقتصادي؛ فإنَّه بلغ الذّروة بين القَرنَيْنِ الحاديَ عشر والثالثَ عشر، وهي الفترة التي أعيدت فيها العلاقاتُ التِّجارية بين العالم الإسلامي وأوربا النصرانية2. كما تذكر المصادر التاريخيَّة أنَّ الدَّافِع الاقتِصاديَّ كان وراء رغبة المهدي بن تومرت في السيطرة على سبتة برغم ما لاقاه من مقاومة شديدة من قِبَل العلاَّمة القاضي عياض3.
على المستوى العلميّ كانتْ مدينة سبتة خلال القرْن السادس والسابع الهجري من أهم مراكز الحركة العلمية في السواحل المغربية، وبِخاصَّة أنَّ هذه المدينة أنْجبتْ أكبرَ شخصيَّة عِلمية مغربيَّة، هو القاضي عياض -رحمه الله- الذي ولد سنة 476 هجرية، كذلك أوَّل شخصية علمية في تاريخ الجغرافية، وهو الشريف الإدريسي السبتي المتوفى 562 هجرية، الذي وضع أوَّل خريطةٍ رسم فيها العالم، وبيَّن مواقعَ البلدان والبحار والأنهار والجبال، ثُمَّ شرح ذلك في كتابه “نزهة المشتاق” الذي قسم فيه الأرض إلى سبعة مناطق، وكل منطقة قسمها إلى عشرة أقطار متساوية.
وقد تعرَّض الحسنُ الوزان الملقَّب بـ”ليون الإفريقي” (توفي سنة 944هـ) في كتابه “وصف إفريقيا” لذِكْر سبتة، فقال: “وكان فيها كثيرٌ من الجوامع والمدارس، والعديد من الصنَّاع ورجال الأدب والفكر، وكان فيها نَحَّاسون مَهَرة يصنعون الشمعدانات والأطباق والمحابر وغيرها، وكانت هذه المصنوعات تُباعُ كما لو كانت من فِضَّة، وقد رأيت منها في إيطاليا، وكان كثير من الطليان يعتقدون أنها صُنعت في دمشق”.
كما شكَّلت سبتةُ البوَّابةَ التي عَبَر منها المسلمون نحو أوربا مؤسِّسين دولة عمرت أكثر من 8 قرون، ساهَمَتْ في تنوير الأوربيّين، وإخراجهم من ظلمات القرون الوسطى!
ولقد مرت مدينة سبتة بأحداث تاريخية كبيرة من قبل الفتح الإسلامي وخضعت لسلطة كل الدول التي تعاقبت على حكم المغرب، كما عاشت التبعية في بعض مراحل تاريخيها للدولة الحفصية في تونس، ولبني الأحمر في الأندلس..
وتعود بداية سقوط المدينة تحت الاحتلال الأوربي النصراني إلى تضعضع إمارة بني الأحمر في غرناطة في القرن الخامس عشر الميلادي، حين بدأ الخلاف يدب بين أمراء المسلمين في الأندلس..، فانتهز زعماء قشتالة -إسبانيا حاليًّا- والبرتغال الفرصة للقضاء على الوجود الإسلامي في هذه البقاع الإسلامية، فيما سُمي بحروب أو حركة الاسترداد، وكانت غرناطة آخرَ هذه القلاع التي سقطت عام 1492م، والمعروف تاريخيًّا أنه بعد سقوط الأندلس، أطلق بابا الفاتيكان يدَ إسبانيا في الساحل المتوسطي للمغرب، والبرتغال في الساحل الأطلسي. وعلى حين سقطت سبتة في يد البرتغاليين عام 1415م، بقيت مليلية تقاوم جيوش الإسبان حتى سقطت عام 1497م، في إطار خطة عامة للإسبان والبرتغاليين لمحاصرة أقاليم الغرب الإسلامي واحتلال أراضيه، ومن ثَم تحويلها إلى النصرانية؛ عملاً بوصية الملكة “إزابيلا” الكاثوليكية المذهب، والتي نصت على ضرورة قيام الكاثوليك بغزو بلاد المغرب، وتحويل المسلمين المغاربة إلى الدين النصراني، ورفع عَلَم الصليب المسيحي عليه بدلاً من أعلام الهلال الإسلامي، وظلت سبتة تحت الاحتلال البرتغالي إلى أن دخلت تحت التاج الإسباني ولم تخرج إلى اليوم4.
وقد قام المغرب بعدة محاولات لاستعادة المدينة من قبضة الاحتلال الإسباني، لعل أبرزها:
* خلال القرنين 17 و18م: قام المولى إسماعيل (1083 – 1140هـ/ 1672 – 1727م) بمحاولة محاصرة واستعادة مدينة سبتة في القرن السادس عشر الميلادي.
* وكذلك محاولة المولى محمد بن عبد الله (1171 – 1205هـ/ 1757 – 1790م) عام 1774م محاصرة واستعادة مدينة مليلية؛ لكن للأسف لم يفلح المسلمون في تخليصها من يد الإسبان.
* وإبان الاحتلال الفرنسي-الإسباني للمغرب، قاد البطلُ المجاهد المغربي محمد بن عبد الكريم الخطابي رحمه الله بين عامي 1921 و1926م ثورةً ضدَّ الإسبان في الشمال المغربي، لكن إسبانيا تصدَّت لها بالتحالف مع دول أوربية أخرى بعد أن أشعلتْ ثورتُه شرارةَ الجهاد في المدينتين..
ومنذ استقلال المغرب عن فرنسا وإسبانيا وهو يطالب في العديد من المناسبات والمحافل الدولية بِاسترجاع مدينتَي سبتة ومليلية، وبعضِ الجزر الصغيرة قبالةَ الساحل الإفريقي؛ مثل بلازاس وسوبيرانيا وجزر الكناري؛ لكن للأسَف دون تَحقيق أيّ تقدُّم ملموس؛ إذ تُصرّ إسبانيا الصليبيَّة على احتِلال أجزاء مهمَّة واستراتيجية في المغرب!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أصل هذه المقالة مقال بعنوان: “مدينة سبتة المسلمة أقدم احتلال في التاريخ!” للأستاذ مولاي مصطفى البرجاوي.
1- “مليلية وسبتة والجزر الجعفرية وجزيرة ليلى”، موقع عرب الأندلس، بتصرف يسير.
2- جرمان عياش: “بليونش ومصير سبتة”، مجلة البحث العلمي، العدد 2021.
3- أحمد الناصري: “الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى”، (2/114)، جعفر الناصري ومحمد الناصري.
4- مقال: “مليلية وسبتة والجزر الجعفرية وجزيرة ليلى”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *