إن النقد الناجع والبناء تجاه “الأوقاف” هو الذي يجب أن يوجَّه إليها على أساسين:
– أساس المجتمع: لحفظ مصالح المجتمع الدينية والدنيوية.
– أساس الدولة: لحفظ مصالح الدولة في الداخل والخارج.
والأساسان معا في ترابط وتناقض رهينين بوجود الدولة، أي بوجود التفاوت بين فئاتها وتشكيلاتها وطبقاتها. من هذا المنطلق يجب أن يبدأ نقد “الأوقاف”، وبناء عليه نسجل -بغرض الحكم على مدى نجاح رؤيتها لهيكلة الحقل الديني- ما يلي:
– في توحيد المذهب والعقيدة والسلوك والقراءة:
فلا يُخدَم المذهب بتحديد قول الجمهور في فروع العبادات فقط، فيحفظها نقلة الفقه يلقنونها الصبيان والعجزة. في حين يطوي النسيانُ: أصولَ المذهب واحتواءها للمتغيرات، وفقهَ تنزيل الأحكام تنزيلا يراعي النص الديني والشرط التاريخي الخاص، وسيرَ أعلام المذهب وعمده وما تحملوه وصبروا عليه نصرة لدينهم وخصوصيات مجتمعاتهم… الخ.
أما العقيدة الأشعرية، فإنها لا تعني “عدم تكفير أحد من أهل القبلة” فحسب، على أهمية هذا الأصل الذي تبناه الإمام أبو الحسن الأشعري وهو على فراش الموت. إنها، في جوهرها، منهج للاستدلال على صحيح العقائد النقلية بصريح البراهين العقلية. وهذه في حاجة لمن ينتجها، بل يطورها، في زمن “الإلحاد العدمي المعاصر”. وبقدر ما تتشبث “الأوقاف” بالعقيدة الأشعرية، وجب عليها فتح قنوات الحوار مع رافضيها من رموز “السلفية المغربية”.
أما تصوف الجنيد، فهو ليس تصوف “حضرة”، ولا هو تصوف أكل الشوك وتعريض الأبدان للهب النار، ولا هو تصوف فرط المحبة حتى تسع “المستعمِر والصهيوني وغيرهما من أعداء الوطن والأمة”، ولا هو تصوف “الفلكلور” وما يستبطنه من تخدير وتخلف… الخ. إنه تصوف “يقظة”، تصوف أخلاق لا “كرامة”، تصوف تزكية للنفس استعدادا لمزيد من التجلد على الممارسة العملية السديدة.
ومقرأ الإمام نافع نحفظه ونصونه ونلقنه الناشئة، دون أن ينسينا جوهرَ القرآن: أي استراتيجيته في مواجهة الاستعمار (الحضارة الغربية الرأسمالية)، وما يمَكّن من صمودها وفعاليتها (ومنه الدفاع عن اللغة العربية).
السؤال المطروح هو: ماذا فعلت “الأوقاف” لتحقيق كل ما ذكِر أعلاه؟
هل كانت قاصدة في سياستها التي تخدم جانبا (على أهميته) وتؤجل أو تهمل جانبا آخر؟ أم أن المطلوب الآني الملح هو ما كان يقدّْم درء مفسدة أكبر على درء مفسدة أقل إفسادا منها؟
قد نتحيز للخيار الثاني، والجواب الصحيح عند “الأوقاف”. ورغم ذلك، فتنبيه “الأوقاف” إلى ما يجب أن تكون عليه استراتيجية توحيد “العقيدة الدينية” فرض كفاية على من استطاع إلى التنبيه سبيلا.
– في الواقع الاجتماعي للأئمة والقيمين الدينيين:
حتى لا ننكر التقدم الملحوظ، فقد بذلت “الأوقاف” مجهودا كبيرا في تحمل مسؤولية أجور الأئمة والخطباء، عكس ما كان يقع في الماضي من تركهم عرضة لأهواء أعيان وأثرياء القرى والمدن، في إطار ما يسمى “الشرط”. إلا أن أجورهم ما زالت هزيلة، وبسبب هزالتها بقوا حبيسي أهواء المنفقين عليهم في المحافل الدينية والمناسبات الاجتماعية.
قد نتفهم أن “الأوقاف” لا تريد للأئمة أن يهجروا تلك المحافل والمناسبات، ولكن ليس بتلك الطريقة، حيث تضيع القدوات ويصبح الإمام مجرد نقطة في جدول أعمال أصحاب الحفلات، كالنادل أو صاحب الكاميرات. ويا ليت الناس أنفقوا في صمت حافظين للإمام هيبته، بل أصبحوا بفعل “خطاب دخيل” ينفقون بإذلال وطعن في دين من أخذ “الصدقة أو الإكرام”. ومَن تحت الإنفاق ذليل بالعادة، فكيف يكون عند الناس مرجعا يؤم ويخطب ويعظ ويفتي ويواسي… الخ.
– في المؤهلات العلمية للإمام والخطيب والواعظ:
ورغم ما بذلته “الأوقاف” من مجهودات في: لجان تزكيات الحفظ والإمامة والخطابة، ومجالس التكوين الدورية التي يؤطرها المندوبون، وضبط المرشدين للخطب والمواعظ وكيفيات الصلاة وخطاب ومواقف الأئمة والخطباء، وإيلاء التعليم العتيق أهمية غير مسبوقة، وتزويد الأئمة والخطباء بمختلف الوثائق والمراجع الضرورية (دليل الإمام والخطيب/ دليل الخطبة)… الخ؛ رغم كل ذلك، فإن مستوى أغلب الأئمة والخطباء دون ذلك بكثير.
فإما أن آليات التنزيل غير فعالة ولا ناجعة، وإما أن “الأوقاف” تعرف حدّا من معرفة الإمام ووعيه لا يجوز أن يتجاوزهما، لحاجة قد نعلمها بعد تأمل.
– في مناهج ومقررات التعليم العتيق:
إنها في حاجة إلى إصلاح، على مستويين:
أولا؛ أن تتعمق الدراسة من غير استغراق في التفاصيل التي لا تهم طالب البدايات. فالمطلوب أن تتكون للطالب “الملكة الفقهية”، ويستوعب منطق “العلوم الشرعية”، لا أن يحفظ من هنا ومن هناك ليستظهره مرارا وتكرارا كلما أتيحت له فرصة ذلك.
ثانيا؛ أن تنفتح الدراسات العليا في التعليم العتيق، خاصة مسلك العالِمية الذي فتح مؤخرا في القرويين، على منهجيات البحث ومناهج التفسير المعاصرة. وذلك، لأن خريج التعليم العتيق لن يكون مطالبا بترديد ما حفظه فقط، ولا بالإفتاء مما عنده فحسب، بل إنه سيكون في حاجة إلى إدراك واقعه وما يحيط به قبل أن يبدي موقفه منه. وإلا فإنه سيكون عالة على مؤسسة “الأوقاف”، تُملَى عليه مواقف الإدارة، بدل أن يعي خلفياتها وما يحكمها، وبدل أن يتفهمها أو يدعو إلى مراجعتها وتصحيحها.
ونستصحب معنا، هنا، نفس الإشكالية:
لما تقف “الأوقاف” عند حدود في الإصلاح لا تتعداها؟ أهي حدود في الإمكانيات المادية؟ أم في إمكانيات الوعي بالمطلوب؟
– في الحد الفاصل بين التطرف والدفاع المطلوب عن ثوابت الأمة:
مواجهة التطرف لا تعني الذوبان في خصوصية وهوية المستعمِر، بل إن حاجتنا إلى المقاومة والدفاع عن ثقافتنا الوطنية أمر لازم. وكما توجه “الأوقاف” المغاربة ضد التطرف الديني، وجب عليها أن تكرس عندهم الرغبة الجامحة في الدفاع عن وطنهم وخصوصياته، ومنها الدينية، بالطرق المشروعة.
هذا المعنى هو ما يجب أن تنظّر له الكتب، ويؤصل له الفقهاء، وتنظم “الأوقاف” في سبيل تكريسه الندوات والمحاضرات والمؤتمرات، في كل جهات المملكة المغربية.