الدعوة بالقرآن في رمضان

إن صلاة التراويح محطة دعوية مهمة؛ لأنها مناسبة ثمينة لاستماع الناس للقرآن الكريم بتمعن وتأمل، لاسيما من صاحب الصوت الحسن الشجي، وهو ما يفتح القلوب ويشرحها لتقبل نور الهداية..

وإذا حلت الهداية قلبا ** نشطت في العبادة الأعضاءُ
ولا شك أن للقرآن العظيم أثره على النفوس المنشرحة لقبول الحق:
عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ. أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ . أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ} كاد قلبي أن يطير” [متفق عليه].
فجبير بن مطعم كان قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وقعة بدر في فداء الأسارى، وكان إذ ذاك مشركا، وكان سماعه هذه الآية من هذه السورة من جملة ما حمله على الدخول في الإسلام بعد ذلك.
وقد أسلم عمر رضي الله عنه بسبب سماع صدر سورة طه .
كما أسلم كثيرون وصلح حال كثير من المنحرفين بسبب سماع القرآن العظيم مجوَّدَ التلاوة بالصوت الحسن.
ولذلك كان المشركون الأوائل المعادون للدعوة يصدون الناس عن سماع القرآن، ويتعرضون لكل مؤمن يجهر بالقرآن:
قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ، فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ، ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} [فصلت/26-29].
قال البغوي في تفسيره (7/171):
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} من مشركي قريش {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} قال ابن عباس: يعني الغطوا فيه، وكان بعضهم يوصي إلى بعض إذا رأيتم محمدًا يقرأ فعارضوه بالرجز والشعر واللغو. قال مجاهد: والغوا فيه بالمكاء والصفير. وقال الضحاك: أكثروا الكلام فيختلط عليه ما يقول. وقال السدي: صيحوا في وجهه {لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} محمدًا على قراءته” اهـ.
قلت: روى البخاري عن عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية.
فلما ابتلى المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة ، فقال: أين تريد يا أبا بكر ؟ فقال أبو بكر: أخرجنى قومي فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربى.
فقال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج مثله، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار، فارجع فاعبد ربك ببلدك.
فرجع، وارتحل معه ابن الدغنة، وطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم ويحمل الكل ويقرى الضيف، ويعين على نوائب الحق؟!
فلم يكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره ويصل فيها، وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا.
فقال ابن الدغنة ذلك لأبى بكر.
فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره.
ثم بدا لأبى بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلى فيه ويقرأ القرآن.
فيتقذف نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينه إذا قرأ القرآن.
فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم، فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن الصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتتن أبناؤنا ونساؤنا، فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد عليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبى بكر الاستعلان.
قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي قد عاقدتك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترد إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له.
فقال أبو بكر: فإني أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل” اهـ.
و”قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عروة بن الزبير عن أبيه قال: “كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ قال: اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه؟
فقال عبد الله بن مسعود: أنا ؛ قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه.
قال: دعوني فإن الله سيمنعني. قال: فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، حتى قام عند المقام ثم قرأ “بسم الله الرحمن الرحيم” رافعا بها صوته {الرحمن علم القرآن} قال ثم استقبلها يقرؤها. قال: فتأملوه فجعلوا يقولون ماذا قال؟!
قال ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد، فقاموا إليه فجعلوا يضربون في وجهه وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ.
ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا في وجهه فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك؛ فقال: ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غدا، قالوا: لا، حسبك، قد أسمعتهم ما يكرهون”اهـ .
فالدعوة بتسميع القرآن هدي نبوي سلفي يحسن الاقتداء به في كل مناسبة، ومن ذلك صلاة التراويح؛ وقد رأينا في التاريخ والواقع كيف أسلم المئات واهتدى الآلاف بسبب سماع أصوات المقرئين المجيدين بالقرآن..
والله الهادي، لا رب سواه، ولا إله غيره..

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *