أولا: لا بد من تثمين كثير من الكسب البشري في مجال الحقوق الفردية والجماعية والمجتمعية، والخاصة بالتداول السلمي على السلطة، والحق في النصيب العادل من الثروة، والحق في المحاكمة العادلة، ورفع كل أشكال الظلم والإهانة عن المواطنين، واعتماد الآلية الديموقراطية في تدبير الاختلاف، وبناء دولة الحق والقانون، والإعلاء من شأن كرامة الإنسان وحقه في الحرية والاختيار والتعبير وتوفره على أمهات الحقوق الأساسية في الأمن والصحة والتعليم والتنقل والسكن وغير ذلك كثير مما هو موضع الاتفاق الانساني، وهو ما يجب أن يكون فيه التعاون وتضافر الجهود الدولية والمحلية، لتوسيعه وحسن تنزيله في العالمين، والعمل أن يصل لكل إنسان في الدنيا حقه فيه، ويصل كل مجتمعات المعمور، وأولى المجتمعات والدول بذلك دولنا ومجتمعاتنا العربية والإسلامية والتي لا تزال متخلفة للأسف الشديد في هذا المجال.
ثانيا: نقط الخلاف بين ما يسمى بالمنظور الكوني للحقوق والمنظور الإسلامي، قليلة ومحصورة، لا يجب أن تشوش على النضال من أجل الحقوق الكثيرة المتفق عليها، والتعاون من أجل ذلك بين مختلف الفاعلين، ويعمل على الأقل محليا بقاعدة “نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه” وربما من شأن أوجه التعاون تلك أن تقرب الهوة وتضعف الشكوك وتقرب الأفهام.
ثالثا: تنميط الشعوب وفق نموذج واحد وقالب دولي صارم، والتنكر لعقائد الناس وأديانهم وخصوصياتهم الحضارية، فيه ظلم كبير وعنت شديد، وخروج بالقوانين من دورها في تنظيم الحياة والعلاقات وفض النزاعات إلى سبب للحرج والضيق والصراع النفسي والاجتماعي، ولهذا كلما كان القانون نابعا من الوجدان الجمعي كلما كان عامل استقرار، وساعد على التنمية، بخلاف ما يفرض بالقهر والاكراه، من هنا كان مبدأ التحفظ على كثير من القوانين المسماة دولية وكونية حقا كفله القانون الدولي نفسه، وتمارسه جميع الدول لرعاية مصالحها واحترام خصوصياتها وهو ما تتيحه اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات الصادرة سنة 1969م، حيث عرفت التحفظ بأنه (إعلان من جانب واحد، أيا كانت صيغته أو تسميته وتصدره دولة ما حينما توقع معاهدة أو تصدقها أو تقبلها أو تقرها أو تنضم إليها، مستهدفة به إبعاد أو تغيير الأثر القانوني لبعض أحكام المعاهدة في تطبيقها على تلك الدولة).
فهذه الولايات المتحدة الأمريكية تمتنع عن التصديق على اتفاقية القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة، ولها تحفظات فيما يتعلق بالمناخ وغيرها من الاتفاقات الكثيرة، والصين تحفظت على المادة 29 من الاتفاقية الدولية الخاصة برفع التمييز ضد المرأة معلنة أنها ”لا تعتبر نفسها ملزمة بالفقرة 1 من المادة 29 من الاتفاقية”، وأعلنت البرازيل أنها لا تعتبر نفسها ملزمة بالفقرة 1 من المادة 29 من الاتفاقية”.
وصادقت إسبانيا على الاتفاقية بشرط عدم المس بالأحكام الدستورية المتعلقة بوراثة التاج الإسباني، وتحفظت أستراليا على نظام إجازة الأمومة المدفوعة الأجر لجميع النساء المعمول في بعض ولاياتها دون غيرها لأنها تعتمد النظام الفيدرالي، وتتحفظ سويسرا على بعض المقتضيات التي ينبغي أن لا تمس بالتشريع العسكري السويسري الذي يحظر على المرأة أن تقوم بمهام تنطوي على نزاع مسلح باستثناء حالة الدفاع على النفس،
وفرنسا أعلنت عدم تفسير أي من أحكام الاتفاقية على أن له ”الغلبة على ما في القانون الفرنسي من أحكام هي في صالح المرأة أكثر منها للرجل”، وقريب من ذلك فعلته بريطانيا (انظرملاءمة القوانين الوطنية مع المواثيق الدولية والحق في التحفظ، بقلم جميلة المصلي على النت).
فمعظم هذه الدول لها وزنها الكبير في صياغة تلك القوانين والمساهمة فيها، وتنسجم في مجملها مع توجهها الحضاري، ومع ذلك تتحفظ عن ما لا تراه وتحافظ على سيادتها وأولوية تشريعاتها الوطنية، فكيف بالدول الاسلامية المتفردة بتاريخها وهويتها وخصوصيتها الحضارية، وتزيد على ذلك ضعفها في التأثير الدولي وفي صياغة تلك القوانين وليس منها دولة واحدة لها حق النقض في مجلس الأمن؟
رابعا: إن هان أمر الدين في شعوب وحضارات بعينها، فهو قوي في الأمة الإسلامية أو على الأقل لا يزال قويا في الوجدان الجمعي للأمة ويصعب تحدي ومعارضة قطعياته التي تستعصي على التأويل أو يصعب فيها التعسف في الاجتهاد، فكيف يمكن للمسلم أن يسلم ويتطبع مع قوانين تبيح الزنا والشذوذ الجنسي والخمر أو الخنزير أو الربا أو زواج المسلمة من غير المسلم، وكيف يصبح “للذكر مثل حظ الأنثيين” في ميراث الأبناء والاخوة: للذكر مثل حظ الأنثى، وكيف تعطي المرأة الصداق بعد أن كانت تأخذه، وكيف تلزم بالإنفاق على الزوج بعد أن كانت هي المستفيدة..
وغير ذلك من الأحكام التي استقر عليها الناس ولا يشعرون فيها مع إيمانهم بربهم وبسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم بأدنى حرج أو إهانة أو تمييز، بل المسلم يشعر أن دينه هو الدين الكوني باعتبار مصدره من الله رب العالمين، لا يتصور منه حيف أو ظلم لأحد، بينما تشريع الناس للناس لا بد أن يكون فيه أثر نقص علم الانسان وأهوائه التي تبعده كثيرا عن العدل والانصاف، وتجعله في كثير من الأحيان يميل لمصالحه الخاصة على حساب الأضعف منه، وما يجري أمام أعين الناس من الكيل بمكاييل عديدة يؤكد ذلك ويثبته، فموت شخص في الغرب يهز عالم الإعلام والسياسة وغيرها وموت شعوب بكاملها في الضفة الأخرى لم يعد يستحق حتى مجرد الأسف والادانة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* باحث في العلوم الشرعية وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين