المرجعية الفكرية للدولة المدنية في الثقافة الغربية

الدولة المدنية: «هذا مفهوم مترجم ومعرب من الثقافة الغربية الحديثة، ويقصد به الدولة التي تستقل بشؤونها عن هيمنة وتدخل الكنيسة؛ فالدولة المدنية هي التي تضع قوانينها حسب المصالح والانتخابات والأجهزة والتي فـي نفـس الـوقـت لا تخضع لتدخلات الكنيسة» (د:محمد عابد الجابري، جريدة الوطن العدد:2053).
ومعلوم أن الكنيسة في الغرب كانت هي راعية الدين والممثلة له؛ فاستقلال الدولة المدنية عن تدخل الكنيسة ووضعها للقوانين حسب المصالح، معناه عند القوم استقلالها عن الدين، وهو ما يعني أن الدولة المدنية هي الدولة العلمانية.
وقد تكوَّن مفهوم الدولة المدنية في الغرب عبر كتابات عدد من فلاسفة أوروبا الحديثة، أبرزهم:

«ميكيافيلِي» (1496-1527)
لـم يؤسسِ «ميكيافيلي» في كتابِه «الأمير» لدولة غير دينيَّة تفك عن نفسها قيد الدين والحكم الديني فحسب، بل أسس لدولة لا تخضع لأي منظومة قيميَّة أو أخلاقية على الإطلاق، فدولة «ميكيافيلي» لا ينبغي أن تخضع لأي مرجعيَّة متجاوزة تعوق الأمير عن اتخاذ السياسات التي يراها مناسبة، وكانت تلك هي البذرة الأولى لنزع المطلقِ الديني، بل والقيمي عن الدولة.
يقول ميكيافيلي في الأمير :”فمنِ الخير أن تتصف بالرحمة، وحفظ الوعد والشعور الإنسانيِّ النبيل، والأخلاق والتديُّن، وأن تكون فعلا متصفا بها، ولكن عليك أن تُعِدَّ نفسك عندما تقتضي الضرورة، لتكون متصفا بعكسها”.
ويهمنا في هذا المقام الإشارة إلى بداية ظهور المصطلح؛ ففي الباب التاسع من كتاب «الأمير» تحت عنوان: في الإماراتِ المدنيَّةِ؛ يقول ميكيافيلي في مطلعه: “ولكنا نصل الآن إلى الحالة التي يصبح فيها مواطن أميرا برغبة أقرانه المواطنين، وليس بالجريمة أو العنف الذي لا يطاق؛ وقد تسمى هذه الحالةَ بـ”الإمارةِ المدنيَّةِ”، وبلوغ هذه الولاية لا يتوقف بتاتا على الجدارة أو الحظ، ولكنه يعتمد بالأحرى علَى المكر يعينه الحظ؛ لأن المرء يبلغُهَا برغبة الشعب، أو بإرادة الطبقة الأرستقراطيَّة».
وإذن؛ فمشاركة ميكيافيلي في وضعِ أسسِ مفهوم الدولة المدنية تتمثل في إرسائه لمعنيين ذوي أثر في مفهوم الدولة المدنية عند هذه الطبقة من فلاسفة أوروبا:
المعنى الأول: نزع المطلق الديني القيمي عن تصرفات السياسي.
والمعنى الثاني: توضيح آلية اختيار الأمير عبر الإرادة الشعبية، أو باختيار طبقة النبلاء، وتسمية ذلك بالإمارة المدنية.

«توماس هوبز» (1588ـ 1679)
في سنة 1651م أصدرَ «توماس هوبز» كتابَهُ اللوباثان(leviathan)، وهو لفظ عبري من مصطلحات العهد القديم يصف وحشا بحريا هائلا يشبِه التنين.
ومما جاء فيه أن: «الحكومةَ الزمنيَّةَ والحكومةَ الروحيَّةَ لفظانِ لـم يظهرا إلى العالـم إلا ليُحدِثا ازدواجية عند الناس، بحيثُ يخطؤون معرفةَ الحاكم الشرعي».
وقال: «إن التمييز بين الحكومة الروحية، والحكومة الدنيوية زائف، فكل حكومة في هذِه الحياة حكومة الدولة وحكومة الدين مؤقتة تحت أمر صاحبِ سيادة مدني واحد».
«ولا يمكن للسلطة الروحية أن تنفصل وتستقل عن السلطة الزمنية، كما أن الحكومةَ المشتركةَ أو المختلطة بينهما ليست حكومة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، فلم يبق سوى أن تخضع إحداهما للأخرى، أعني أن تخضع السلطة الروحية لسيطرة الدولة، فالأخطاء التي وقعت فيها الأمم بسبب السلطة الروحية لا حد لها، ولهذا كان لابد أن نحدد بدقة المكانةَ التي يشغلها الدين داخل الدولة، وأن نبين حدود السلطة الروحية» )انظر :توماس هوبز  فيلسوف العقلانية ص:289(.
فالدولة التي يدعو إليها هوبز يصبح قانونها كما يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري: “القانون المطلق الذي يفرضه الملك فرضا، والدولة هنا أصبحت حرفيا هي «المطلق»، و«المرجعية النهائية»، ومن هنا أله هوبز الدولةَ، واعتبرها إلها زميا مرتبطا بالإله الخالد، وقد اعتبرها أيضا التنين الحتمي) “العلمانية الجزئية، والعلمانية الشاملة 2/76.(

«اسبينوزا» (1632-1677)
أما اسبينوزا فقط كان أكثر تطرفا وأبى حتى إشراف أهل الدينِ على شؤونه، فقال: “لا شك أن تنظيم شؤون الدين يقع على عاتقِ السلطة الحاكمة وحدها”.
وأن: «الدين لا تكون لَه قوة القانون إلا بإرادة من له الحق في الحكم» (رسالة في اللاهوت والسياسة).

«جون لوك» (1632-1704)
رغم كون لوك هو آخر الفلاسفة المنظرين للدولة المدنية من جهة أصالة التنظير؛ إلا أن مفهومه له هو أكثر المفاهيم شيوعا عند المتكلمين في هذه القضية، ولربما ظن بعضهم أن هذا المفهوم هو ما كان يقول بِه هوبز أو ميكيافيلي، وهذا غير صحيح، والصورة المتكاملة للدولة المدنية كما تسبق للأذهان الآن والقائمة على مؤسسات المجتمع المدني، والعقد القائم بين الأفراد وبين السلطة العليا التي وصلت لمنصبها بالانتخاب، وبأغلبية الشعب، والحفاظ على مبدأ فصلِ السلطات، وحق الشعوب في الاعتراض والثورة، هذه الصورة المركبة الشائعة لا تكاد توجد مكتملة كمفهوم للدولة المدنية سوى عند جون لوك دون باقي من ذكرناهم من فلاسفة الدولة المدنيَّة .
ورغم مخالفة جون لوك لكل من اسبينوزا وهوبز في مفهوم الدولة المدنية إلا أنه وفقهما على فصل الدين ونزع المطلق عن الدولة.
يقولُ جون لوك: “ينبغي التمييز بوضوح بين مهام الحكم المدني؛ وبين الدين وتأسيس الحدود الفاصلة بينهما..”.
وبعد أن يشرح مهام الحاكم المدني المنحصرة في إدارة شؤون الدولة يقول: “وتأسيسا على ذلك أود أن أؤكد أن سلطةَ الحاكم لا تمتد إلى تأسيس أيَّة بنود تتعلق بالإيمان أو بأشكال العبادة استنادا إلى قوة القوانين».
ويقول: “ليس من حق أحد أن يقتحم، باسم الدين، الحقوق المدنيةَ والأمور الدنيويةَ”.
ويقول: “فن الحكم ينبغي ألا يحمل في طياته أيةَ معرفة عن الدين الحق”.
ويقول: “ما هو قانوني في الدولة لا يمكن للكنيسة أن تجعله محرما أو ممنوعا”. )انظر: الرسالة الثانية في الحكم: العقد الاجتماعي؛ نقلا عن الدولة المدنية مفاهيم وأحكام؛ لأبي فهر أحمد سالم(.
وقد تلقفت نخبة من المستغربين النظرة الغربية العلمانية للدولة والحكم؛ وآمنت بها إيمانا عميقا؛ ومنه سعت إلى تمرير قناعاتها إلى عوام المسلمين ومثقفيهم؛ وإذا رجعنا إلى الوراء ثمانين سنة إلى أول من أدخل هذه الشبهات إلى بيئتنا أو من يُعد من أولهم نجد علي عبد الرازق صاحب كتاب الإسلام وأصول الحكم يقول: «طبيعي ومعقول إلى درجة البداهة أن لا توجد بعد النبي زعامة دينية، وأما الذي يمكن أن يتصور وجوده بعد ذلك فإنما هو نوع من الزعامة جديد ليس متصلاً بالرسالة ولا قائماً على الدين، هو إذن نوع لا ديني، وإذا كانت الزعامة لا دينية فهي ليست شيئاً أقل ولا أكثر من الزعامة المدنية أو السياسية، زعامة الحكومة والسلطان لا زعامة الدين، وهذا الذي قد كان». فالـدولـة (الزعامة) المـدنيـة عنـده هي دولة (زعامة) لا دينية.
ومعروف ماذا كان دور علي عبد الرازق الذي يعد أول من أنكر علاقة الدين بالحكم أو السياسة، وأنكر أن تكون خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه خطة دينية، وكذلك دور طه حسين التغريبي وغيره، وهذا الاعتراف يعني أن الدولة المدنية هي الدولة العلمانية، وإن كان بعض الناس يفضل استخدام لفظ المدنية على العلمانية من أجل الخداع والمراوغة. (أنظر: الدولة المدنية صورة للصراع بين النظرية الغربية والمحكمات الإسلامية).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *