قبل توجهه في زيارة إلى السودان صرح “أندرو ناتسيوس” رئيس الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية والذي صاحب وزير الخارجية الأمريكي الأسبق “كولن باول” في زيارته إلى السودان أن هناك أكثر من مليون لاجئ سوداني ربما يموتون جوعًا هذا العام، بسبب عمليات التطهير العرقي التي تجري تحت سمع وبصر الحكومة السودانية من قبائل “الجنجويد” العربية للأقلية الإفريقية في إقليم دارفور غربي السودان.
وفي خطوة غير عادية تشير إلى مدى اهتمام الإدارة الأمريكية بمسألة السودان استدل “ناتسيوس” بصور للأقمار الصناعية تظهر دمار ما يقرب من 300 قرية في إقليم دارفور.
ولكن لماذا هذا التحول الأمريكي المفاجئ تجاه السودان؟
ولماذا زيارة وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق إلى ذلك البلد الذي مزقته الحروب الأهلية منذ الثمانينيات وفي تلك الفترة بالذات، خاصة عندما نعلم أن آخر مسؤول رفيع زار السودان كان “سايروس فانس” وكانت تلك الزيارة عام 1978م عندما كان “سايروس” يعمل مبعوثًا للرئيس الأمريكي “جيمي كارتر” آنذاك، وكان سبب تلك الزيارة هو “التوقف” في السودان فقط من أجل إعادة تزويد طائرته بالوقود.
مراقبة أمريكية للأوضاع في دارفور في غرب السودان بصور أقمار صناعية، وزيارة أكبر مسؤول في الخارجية الأمريكية، وزيارة الأمين العام للأمم المتحدة، ومسؤول الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID”” للسودان، كل ذلك لماذا؟ برغم انشغال الولايات المتحدة حتى أذنيها في مستنقعي أفغانستان والعراق؟
الدعم الأمريكي-الصهيوني للمقاومة جنوب السودان
ما حدث من تمرد الجنوب ليس بخاف على القارئ، وبخاصة الحركات المسلحة التي كان يتزعمها “جون قرنق” صنيعة “إسرائيل” والولايات المتحدة، والذي بدأ حركة التمرد المسلح في عام 1983 على حكومة الخرطوم، بدعم صهيوني عن طريق إثيوبيا سواء بالسلاح أو وضع محطة إذاعة تحت تصرفهم، وزوده الكيان الصهيوني بأسلحة متقدمة ودربت عشرة من طياريه على قيادة مقاتلات خفيفة للهجوم على المراكز الحكومية في الجنوب، ووفرت له صوراً عن مواقع القوات الحكومية التقطتها أقمارها الصناعية، بل إن “إسرائيل” أوفدت بعض خبرائها لوضع الخطط والقتال إلى جانب الانفصاليين، وقد قتل منهم خمسة ضباط صهاينة في معارك دارت في نهاية عام 1988م، كان بينهم اثنان من ضباط الموساد. وثبت أن الضباط اليهود اشتركوا في العمليات التي أدت إلى احتلال بعض مدن الجنوب في عام 1990م وهذه المدن ثلاث هي: مامبيو واندارا وطمبوه.
بدأ الدعم الأمريكي والغربي والصهيوني لـلهالك “قرنق” والحركات الانفصالية في الازدياد مع ظهور النفط في الجنوب، مما حدا بتلك الأطراف إلى تبني سيطرة الجنوب ذي الغالبية النصرانية على منابع النفط في تلك المنطقة، وقام الكيان الصهيوني وأمريكا بتبني “جونج قرنق” بعدما دعمته السفارات الأمريكية في كينيا وأوغندا وزائير سابقا، ومن ثم حصل على منحة أمريكية تمكن من خلالها من الحصول على درجة الدكتوراه في الاقتصاد الزراعي، ثم تلقى دورات عسكرية في الولايات المتحدة، ثم غادرها اتجاه الكيان الصهيوني لتلقي دورة عسكرية في كلية الأمن القومي بالكيان الصهيوني، وقد زار “إسرائيل” ثلاث مرات وظل على علاقة وثيقة ومنتظمة مع سفراء الصهاينة بالدول المجاورة وخصوصًا كينيًا.
ثم إن “إسرائيل” كانت تدفع مرتبات قادة وضباط جيش تحرير السودان، وقدرت مجلة “معرخون” العسكرية أن مجموع ما قدمته “إسرائيل” لجيش تحرير الجنوب 500 مليون دولار، قامت الولايات المتحدة بتغطية الجانب الأكبر منه، كما كانت “إسرائيل” هي التي أقنعت الجنوبيين بتعطيل تنفيذ مشروع قناة “جونجلي”، الذي تضمن حفر قناة في منطقة أعالي النيل لنقل المياه إلى مجرى جديد بين “جونجلي” و”ملكال” لتخزين 5 ملايين متر مكعب من المياه سنوياً، ويفترض أن يسهم المشروع في إنعاش منطقة الشمال والاقتصاد المصري، فقالت “إسرائيل” للجنوبيين إنهم أولى بتلك المياه التي سينتفع بها غيرهم، ثم إنها ادعت أن ثمة خطة لإرسال ستة ملايين فلاح مصري إلى الجنوب (كما حدث في العراق) لتغيير تركيبته السكانية لمصلحة كفة العرب والمسلمين.
الكيان الصهيوني.. والنفط السوداني
وبمجرد ظهور النفط في الجنوب أوفد الكيان الصهيوني في النصف الأول من الثمانينات واحداً من أكبر خبرائه، هو “ايلياهو لونفسكي” لدراسة احتمالاته، التي قدرها بسبعة مليارات برميل. ونتيجة لذلك شرع الجنوبيون في المطالبة بحصتهم من هذه الثروة، وعارضوا إنشاء مصفاة للنفط في منطقة “كوستي” بإحدى الولايات الشمالية.
وفي كتاب أصدره مركز “ديان” لأبحاث الشرق الأوسط وإفريقيا التابع لجامعة “تل أبيب” حول “إسرائيل وحركة تحرير السودان” تأليف ضابط الموساد السابق العميد المتقاعد “موشي فرجي”، تم تفصيل خطة تسمى بـ “شد الأطراف ثم البتر”، وفيها تريد إسرائيل أن تشد أطراف المناطق العرقية المختلفة كلٌّ على حِدة وتقويتها، ومن ثم بعد ذلك بترها أي فصلها عن بعضها البعض، وهي حيلة يهودية قديمة كانت معروفة في السابق باسم “فرّق تسُد”، ولكن للأسف ساهمت الحكومة السودانية في أبعاد تلك الأزمة سواء عن عمد أو عن جهل.
فقد شكلت الحرب الانفصالية في جنوب السودان تهديداً للمراعي العربية التي تمتد في وسط الجنوب حتى “بحر العرب” و”ديم زبير” وغيرها، وخاصة بعد حدوث حالة الجفاف التي ضربت السودان لفترات طويلة، بالإضافة إلي وجود العداء القديم بين العرب و”الدينكا” وغيرها من القبائل الإفريقية، ما أدى إلى إحداث نوع من التحالف بين الحكومة وبعض القبائل العربية، واستثمرته الحكومة في سعيها للقضاء على المتمردين في الجنوب، ورغم أن الحكومة لم تنجح في اللعب بورقة العرب في الجنوب إلا أنها عادت واستخدمتها في الغرب السوداني وتحديدا في إقليم دارفور الذي قامت فيه الحكومة بتسليح العرب من أجل عزل القبائل الإفريقية المرشحة للتمرد، وقد عرفت الميليشيات العربية المسلحة في دارفور بعد ذلك باسم ميليشيات “الجنجويد”، وصاروا يقومون بعمليات مسلحة في تلك المنطقة ويتحدثون باسم الحكومة، واستخدم “الجنجويد” السلاح لتصفية حساباتهم القديمة مع القبائل الزنجية في دارفور، مما أدى إلى تفاقم الأوضاع هناك.
وكما يبدو من تلك التركيبة العرقية والقبلية والدينية المتباينة، واتساع مساحة الدولة السودانية ، وتميز موقع السودان كبوابة جنوبية للوطن العربي ولمصر بالأخص، وكدولة مطلة على البحر الأحمر الذي يريد الكيان الصهيوني التحكم فيه بعدما حدث في حربي 1967م و1973م مع قيام العرب بإغلاق باب المندب أمام حركة الملاحة، وجريان نهر النيل في أراضيها الذي يعد شريان الحياة في أكثر من بلد إفريقي هام, مع كل هذه العوامل أصبحت السودان دولة مثلى للتدخل الأمريكي-الصهيوني، وذلك خاصة بعد ظهور النفط في الجنوب، ومحاولة الولايات المتحدة السيطرة على منابع النفط في العالم بعد صدور تقارير عن وصول إنتاج النفط العالمي إلى ذروته، وأن المرحلة القادمة سوف تشهد تناقصًا ملحوظًا في الاحتياطي المعروف عالميًا، والذي كان أحد أهم الأسباب لغزو العراق إضافة إلى تأمين الكيان الصهيوني.