استراتيجية الحرب على السلفية وصورها مصطفى الحسناوي

انخرط العالم أجمع في حملة محاربة السلفية سواء في جانبها العملي التطبيقي الممارساتي، أو في جانبها الاعتقادي المفاهيمي التصوري. تمهيدا لحرب شاملة على الإسلام والمسلمين، حتى أصبحت السلفية مشجبا وغطاء لضرب أي جهة أو جماعة أو مشروع، تحت ذريعة محاربة التطرف أو التشدد أو الإرهاب أو الوهابية… العناوين متعددة والهدف واحد.
لقد اتخذت هذه الحرب صورا وأشكالا تنوعت حسب الظروف والمستجدات العالمية والإقليمية، فاتخذت في وقت سابق شكل حملة عسكرية شرسة رافقتها حملة أمنية لا تقل شراسة، لكن بعد ما سمي بالربيع العربي تقلصت الحملة العسكرية بشكل ملحوظ ومعها الحملة الأمنية، لتطفو على السطح حملة إعلامية محمومة أعادت إلى الأذهان الأجواء التي سبقت أو رافقت كل التفجيرات التي حدثت في العالم، تبريرا لحملات الاعتقال، وانخراطا في حملة التشويه التي تغذيها منابر إعلامية معروفة التوجه والتمويل اعتمادا على الإشاعة والتضخيم والتهويل.
إن المطلع على تقارير مؤسسة راند المعنية بالدراسات المستقبلية والخطط الاستراتيجية، والمرتبطة بعلاقات مع وكالة المخابرات المركزية CIA، ومكتب التحقيقات الفدراليةFBI ، لن يجد صعوبة في فهم ما يتعرض له الإسلاميون عموما والسلفيون خصوصا من حرب ومنع وتضييق، وعلاقة الولايات المتحدة الأمريكية وسياستها ومصالحها وعقيدتها وحضارتها وعملاؤها وأزلامها وأبواقها، بتلك الحرب المتعددة الواجهات.
جاء في إحدى تلك التقارير أنه لا يمكن إحداث الإصلاح المطلوب من دون فهم طبيعة الإسلام في المنطقة، الذي يقف سدا منيعا أمام محاولات التغيير، وأنّ الحل يكمن في النظر إلى المسلمين عبر أربع فئات.. مسلمين أصوليين، مسلمين تقليديين، مسلمين حداثيين، مسلمين علمانيين.
والأصولي حسب تعريف راند هو ضد المعتدل، ومفهوم الاعتدال في هذا التقرير ومواصفاته هو مفهوم أمريكي غربي، وليس مفهوم إسلامي. وهناك فقرة في التقرير بعنوان “خصائص المسلمين المعتدلين”؛ ورد فيها أن “هذه الدراسة تتبنى تعريف المسلمين المعتدلين بأنهم الذين يشتركون في الإيمان بالأبعاد الأساسية للثقافة الديمقراطية”. وأن على المسلم كي يسمى معتدلا أن يلتزم بالديمقراطية مبنى ومعنى ومضمونا كما تفهم في إطار التقليد الغربي، والقبول بالقوانين المدنية العلمانية وحقوق الإنسان بمفهومها الغربي، أما الحد الفاصل بين المعتدل والأصولي فهو المطالبة بتطبيق الشريعة.
فيما يتعلق بالأصوليين: تقول راند “يجب محاربتهم واستئصالهم والقضاء عليهم، وأفضلهم هو ميَتهم، لأنّهم يعادون الديمقراطية…”.
ويدخل في هذا الباب، السلفيون و”الجهاديون” و”الوّهابيون” كما يقول التقرير.
بعد عملية التصنيف والعزل، لهؤلاء الذين يجب محاربتهم واستئصالهم والقضاء عليهم وقتلهم والحذر والتحذير منهم، تأتي عملية التشويه أو الحملة الإعلامية لتسهيل المهمة، ومما جاء في توصيات إحدى تلك التقريرات الراندية، العمل على إظهار الأصوليين بصورة مشوهة من خلال:
– إظهار علاقات واتصالات لهم بأنها مشبوهة وغير قانونية.
– إظهار هشاشة قدرتهم في الحكم وتخلّفهم.
– تغذية عوامل الفرقة بينهم.
– دفع الصحفيين للبحث عن جميع المعلومات والوسائل التي تشوه سمعتهم وفسادهم ونفاقهم وسوء أدبهم وقلّة إيمانهم.
– تجنب إظهار أي بادرة احترام لهم ولأعمالهم، أو إظهارهم كأبطال، وإنما كجبناء ومخبولين وقتلة ومجرمين، كي لا يجتذبوا أحدا للتعاطف معهم.
إذن المسألة متعلقة بعملية تغيير في العالم الإسلامي، يقف الإسلام في وجهها سدا منيعا عن طريق معتنقيه والمؤمنين به، ممن سماهم التقرير بالأصوليين، والحل يقوم على تصنيفهم وعزلهم ثم تشويهم، كتمهيد لشن الحرب على مستويات وواجهات عدة يمكن إجمال صورها في:
أولا: توسيع دائرة التدمير
توسيع دائرة القصف والتخريب والتدمير، سياسة انتهجتها القوات الأمريكية والتحالف المؤازر لها في عدوانها، وهذا التدمير إما أن يشمل أماكن تواجد الجماعات المقاومة لمشروعها والمناهضة لسياستها عسكريا، سواء كانت معسكرات أو مضافات أو مخيمات. أو يشمل الحاضنات الشعبية الموالية أو المساندة أو المتعاطفة مع الجماعات المقاومة والمجاهدة من قرى وقبائل، بغرض إرهابها وإخافتها أو لمجرد الحقد. كما حدث أكثر من مرة في استهداف المدارس والأسواق والأعراس في مناطق عدة من أفغانستان وباكستان والعراق واليمن وغيرها.
فحينما تعلق الأمر بطالبان مثلا تم تدمير بلد بكامله، وألقيت آلاف الأطنان على هذا البلد الفقير، مخافة أن يسقط بيد مسلمين يسعون لتطبيق الشريعة، وحين تعلق الأمر بالعراق التي كان من المفروض الاكتفاء بإسقاط النظام وتدمير بنيته، فإذا بنا بعد دخول “الأصوليين” على الخط تم اعتماد استراتيجية التدمير الشامل، ففي حرب الفلوجة تم استعمال قنابل النابالم الحارقة والفوسفور الأبيض بشكل عشوائي، وبعد سيطرة المقاتلين على أجزاء كبيرة من العراق، تم اعتماد سياسة الأرض المحروقة فتم إهلاك الحرث والنسل.
وكمثال على توسيع دائرة التدمير؛ ما قام به الكيان الصهيوني مدعوما بالآلة العسكرية والديبلوماسية والإعلامية الأمريكية في حرب غزة، حيث تم تدمير كل البنيات التحتية من مدارس ومستشفيات وطرق وقناطر، وقتل مئات الأطفال والشيوخ والنساء والرجال، وشرِّد آلاف الغزاويين، في حرب أطلق عليها الكيان الصهيوني اسم: “الرصاص المصبوب 2”.
سياسة التدمير الشامل تستعين فيها الولايات المتحدة الأمريكية أيضا بشركات أمنية وتتعاقد مع مرتزقة ومجرمين لتنفيذ عمليات اغتيال وتخريب، وما تفجيرات شركة بلاك ووتر في أسواق ومدارس باكستان والعراق بخفية، فيتم قتل الأبرياء وإرهاب السكان، وتشويه المقاتلين بعد إلصاق التهمة بهم.
تتحرك الديبلوماسية والآلة العسكرية الغربية بشكل سريع ومختلف جدا حين يتعلق الأمر بإسلاميين يسعون لجعل الإسلام مصدرا لتشريعهم وحكمهم. وكما تابعنا فقد صادق مجلس الأمن بالإجماع، يوم الجمعة 12 أكتوبر 2012، على قرار التدخل العسكري في شمال مالي وبدت مساعي فرنسا الحثيثة في تسريع هذا التدخل، بعد دخول جماعة أنصار الدين على الخط وهي جماعة محلية إسلامية مستقلة تطالب باستقلال الشعب الأزوادي عن مالي، وإقامة الشريعة الإسلامية، فلماذا لم تتعامل الأمم المتحدة ولا فرنسا كتعاملها مع رغبة الشعب الليبي في التحرر؟ ولماذا لم يتعامل المنتظم الدولي بنفس القوة والحزم والتدخل العسكري السريع في سوريا لردع نظام بشار المجرم؟! أم أن الأمر لا يصب في مصلحة هذا الغرب المتغطرس.
ثانيا: توسيع دائرة الاشتباه
أسفرت الحرب العالمية على ما يسمى الإرهاب، عن آلاف المعتقلين والأسرى، سواء منهم الذين اعتقلوا في ساحات المعركة، أو ممن لهم ارتباط مباشر بالعمل العسكري، أو من المتعاطفين، أو حتى من المعارضين للسياسة الأمريكية والمناهضين لها سلميا ممن تفصلهم عن بؤر التوتر وجبهات القتال آلاف الأميال، بل حتى من المواطنين العاديين.
فقد أقدمت الولايات المتحدة الأمريكية، تدفعها الرغبة في امتلاك أكبر وأدق المعلومات والتفاصيل، مصحوبة بالحقد الدفين والرغبة في الانتقام، على اعتقال الأبرياء ممن ليس لهم علاقة بحرب أو إعداد، هذا النهم وهذه السادية لرؤية الناس مكبلة تقاد للمخافر والقواعد العسكرية والمعتقلات السرية والعلنية القريبة والبعيدة، فتح سوقا رائجة للاتجار في البشر فكانت العصابات وأمراء الحرب وأجهزة المخابرات تبيع الناس بمقابل مالي للأمريكيين، وقد ذكر ذلك عدد من الأسرى ممن تم بيعهم مقابل دراهم معدودة.
في المغرب توسعت دائرة الاشتباه، فتم الزج بالأبرياء في السجون مباشرة بعد انخراط المغرب في الحملة على الإرهاب، ثم بعد عمليات الدار البيضاء الإجرامية، بدأت حملة غير مسبوقة على الدعاة والملتزمين عموما، بتحريض إعلامي علماني حاقد وجد الفرصة لتصفية حساباته، فبلغ عدد المعتقلين حسب بعض الروايات عشرة آلاف، لم يتم توجيه أي اتهام محدد ومباشر لهم أو تقديم أي حجج وأدلة تدينهم.
دائرة الاشتباه توسعت لتشمل المؤسسات الخيرية والمعاهد والمدارس الدينية، وهذا يقودنا إلى الحديث عن صورة أخرى من صور الحرب.
ثالثا: توسيع دائرة المنع
التدمير والقتل كان الحظ الأوفر منه من نصيب من دخل في مواجهة مباشرة مع الأمريكيين وحلفائهم، في حين كان الأسر والاعتقال من نصيب الرافضين للسياسة الأمريكية أو المتعاطفين مع المقاتلين، أما المنع فقد تم توسيعه ليشمل صاحب كل مشروع إسلامي أصيل دعوي أو علمي أو خيري، حتى إن لم يكن له أي علاقة بالحرب مشاركة أو تعاطفا أو تحريضا.
في كتابه “ضحايا بريئة.. للحرب العالمية على الإرهاب” حاول محمد بن عبد الله السلومي أن يرصد النتائج الوخيمة التي تمخضت عن الحرب ضد الجمعيات والهيئات الخيرية الإسلامية، وأن الذي دفع ثمن هذه الحرب الأيتام والفقراء والمساكين وذوو الحاجة؛ ومن تقطعت بهم السبل ومنكوبو الكوارث الطبيعية والحروب والذين حل بهم الجفاف والمجاعة.
وهناك المئات من المؤسسات التي كانت تقوم بأعمال خيرية وتقدم المساعدات وأعمال الإغاثة في المناطق المنكوبة والجافة والفقيرة، تم منعها ومصادرة أرصدتها وغلق مقراتها.
المنع طال المدارس والمعاهد والجامعات والمناهج الدراسية والتعليمية، من باكستان إلى المغرب مرورا بالسعودية واليمن ومصر وغيرها، في المغرب مثلا تم توسيع دائرة المنع لتشمل دورا للقرآن لم تزد مهمتها عن تحفيظ القرآن الكريم وتعليم العلوم الشرعية والإحسان إلى الناس، حيث تم إقفال ما يقارب من 70 دارا ومعهدا للقرآن.
المنع طال أيضا الأنشطة والشخصيات سواء كان منعا من المزاولة والمباشرة والأداء، أو تعتيما ومحاصرة إعلامية، نذكر منها منع ندوة كان من المزمع عقدها بقاعة المهدي بن بركة بالرباط دون أي مبرر، أو التعتيم الذي قوبلت به مهرجانات النصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما منع الشخصيات فقد تم توسيع دائرة المنع لتشمل خطباء وعلماء وأئمة لم يرتضيهم الساهرون على تنفيذ خطة تنظيم الشأن الديني، فقد تم منع وتوقيف الشيخ الدكتور رضوان بن شقرون وإعفاؤه من مهامه بصفته رئيسا للمجلس العلمي المحلي بالدار البيضاء، وخطيبا بمسجد الحسن الثاني، وهو نفس المصير الذي لاقاه الخطيب عبد الله نهاري والدكتور رشيد نافع، وغيرهم كثير.
كما أن وسائل الإعلام العمومية التي هي من حق كل أبناء الشعب وتمول بأمواله، محرمة على وجوه وشخصيات كثيرة، بل قد يصل الأمر لترويج الأكاذيب عن شخصية ما، دون أن تمنح حق الرد الذي يكفله القانون.
كانت هذه لمحة خاطفة عابرة بسطنا من خلالها صورا لتلك الحرب الهوجاء التي يشنها الغرب وأزلامه على الإسلام والمسلمين، تحت غطاء محاربة الإرهاب أو الأصولية أو السلفية، معتمدا استراتيجية البدء بالثور الأبيض، لحين إنضاج ظروف الانقضاض على الثور الأسود، وقد لاحظنا أن الحرب لا علاقة لها لا برد عدوان، ولا برد فعل مؤقت، بل هي حرب من أجل اختراق العالم الإسلامي وتغيير مناهجه ومنظوماته، يشهد لذلك التقارير المتتالية وواقع الحال وتعدد الحلفاء ممن يرومون تصفية حساباتهم مع الإسلام، من علمانيين وصهاينة وصليبيين وأصحاب مصالح، إنها حرب عقدية دينية حضارية، وصفها قائدها بوش الصغير بالحرب الصليبية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *