قال الدكتور د. راغب السرجاني الباحث في علم التاريخ وصاحب موقع قصة الإسلام متسائلا:
“أين الحق في هذه القضية -أي قضية الصحراء المغربية-؟!
ومن الذي يملك هذه الأرض؟
ومن الذي ينبغي أن يحكمها؟!
إن الرأي الذي أراه حقًّا في هذه القضية، والذي أتمنى ألاّ يُغضب أحدًا من الأطراف، هو أن الصحراء الغربية أرض مغربية مائة بالمائة، وأنه لا يجوز أصلاً إجراء استفتاء تحديد المصير بين أهلها، مع أننا نلوم المغرب على تركه للقضية في سنة 1956م إلى سنة 1975م، ومع أننا نقدِّر الجهد المشرِّف الذي قام به المغاربة الصحراويون في إخراج الأسبان، إلا أن هذا لا يُلغي مغربية الأرض، وهو أمر غير مقبول عقلاً ولا عُرفًا، وإلاّ أصبح الطريق مفتوحًا لكل مدينة قاومت الاستعمار أن تطالب باستقلالها عن الكيان الأم، وغدًا نسمع عن دولة الرباط ودولة الدار البيضاء ودولة فاس، وهكذا!! وهذه الفكرة الخبيثة صدَّرتها لنا الأممُ المتحدة لتساهم بشكل كبير في تفتيت العالم الإسلامي..
حتى نفهم قضية الصحراء المغربية لا بد من العودة إلى الجذور ليتضح لنا الحق من الباطل؛ فقد بدأت قصة الصحراء في سنة 1884م في أخريات القرن التاسع عشر عندما عقدت دول الاحتلال الكبرى، وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال، مؤتمرًا في برلين بألمانيا، حيث قاموا بتقسيم إفريقيا بكاملها على دول الاحتلال الستة، وقد تم الاتفاق في هذا المؤتمر على أن تتقاسم فرنسا وإسبانيا المغرب، مع الأخذ في الاعتبار أن فرنسا كانت تحتل بالفعل الجزائر بدءًا من عام 1830م، وكذلك تونس عام 1881م، وقد اعترض إمبراطور ألمانيا على هذه القسمة؛ لأنه كانت لديه أطماع لاحتلال مدينة طنجة، فقامت فرنسا بترضيته عن طريق التنازل له عن الكونغو مقابل السماح لها باحتلال طنجة!
هكذا كان حال من خرج من رحم الثورة الفرنسية وتشبع بمبادئ الديمقراطية والحقوق؛ والعدالة والأخوة والمساواة؛ كان يقسِّم البلاد كما يقسِّم أيُّ مجموعة من اللصوص أموالاً سرقوها، والأغرب أن هذا التقسيم كان قبل السرقة الفعلية، ولقد تمت معظم توصيات مؤتمر برلين بشكل مذهل، ودفعت إفريقيا الثمن باهضا، وما زالت تدفعه إلى الآن.
وكان المغرب في وقت مؤتمر برلين (1884م) تحت حكم السلطان الحسن الأول بن محمد (1874- 1894م)، وفي عهده ازداد الضغط والنفوذ الأجنبي، وكانت طنجة تُحكم بمجلس يتناوب على رئاسته الفرنسيون والأسبان، ثم ما لبثت فرنسا أن احتلت تونس سنة 1881م، إضافةً إلى الجزائر من سنة 1830م، ومنه علم السلطان المغربي أن الدور عليه، وأن فرنسا لن تترك بلاده، فما كان منه إلا أن أخذ في بحث عن وسيلة لتأمين المغرب؛ ولجأ إلى بريطانيا لتحميه من فرنسا، ولكن بريطانيا وفرنسا اتفقتا معًا على أن تُطلق بريطانيا يدَ الفرنسيين في المغرب على أن تغضَّ فرنسا الطرف عن احتلال بريطانيا لمصر!
وبالفعل احتلت بريطانيا مصر سنة 1882م، وأصبح الطريق مفتوحًا لفرنسا لكي تحتل المغرب. وأثناء المؤتمر حدث نزاع بين فرنسا وإسبانيا على المغرب، واتفقا داخل المؤتمر على تقسيم المغرب بينهما.
كان المغرب آنذاك مملكة كبيرة تمتد من البحر الأبيض المتوسط شمالاً إلى السنغال جنوبًا، وهي بذلك تشمل في داخل أراضيها مملكة المغرب الحالية، وأرض الصحراء المتنازَع عليها، وكذلك دولة موريتانيا بكاملها والصحراء الشرقية.
واحتلال المغرب لم يكن رغبة فرنسية فقط، إنما كان رغبة فرنسية إسبانية مشتركة، لكن أساطيل فرنسا كانت مشغولة بالعربدة في موانئ العالم المختلفة، فقد كان لها أطماع توسعية فوق التخيُّل؛ مما جعلها تؤجِّل الملف المغربي قليلاً، على عكس إسبانيا التي فقدت معظم مستعمراتها السابقة، وبالتالي كانت شغوفة جدًّا باحتلال جزء من الأراضي المغربية. ومن هنا فقد زحفت الأساطيل الإسبانية لترسو على ساحل منطقة الصحراء الغربية في وسط المغرب آنذاك، وقامت باحتلاله، وذلك في سنة 1884م، وبذلك فَصَلتْ بين شمال المغرب الواقع تحت سيطرة السلطان الحسن الأول، وبين جنوبه الذي سمِّي بعد ذلك بموريتانيا.. وهذا هو الاحتلال الذي سيبقى 91 سنة متصلة (من 1884 إلى 1975م).
لكن فرنسا الإمبريالية لم تقبل بهذا الوضع، ومن ثَمَّ جهزت نفسها لتحتل الجزء الجنوبي من بلاد المغرب (جنوب الصحراء الغربية المحتلة من قِبل الأسبان)، وهي المنطقة التي عُرفت بعد ذلك بموريتانيا (مورو/تانيا أي أرض المسلمين في اللغة الإسبانية)، ونزلت بالفعل الأساطيل الفرنسية في أرض موريتانيا سنة 1902م لتحتلها بكاملها على الرغم من المقاومة الشعبية.
ولم تتوقف منذ ذلك الوقت حلقات مسلسل الجهاد لطرد العدو الإسباني والفرنسي من الأرضي المغربية؛ وقد قاد الجهاد رجال أشاوس كالشيخ المجاهد ماء العينين والأمير عبد الكريم الخطابي وابنه محمد بن عبد الكريم الخطابي، واستمرت ثورات الشعب المغربي الأصيل، سواءٌ في الشمال أو في الصحراء الغربية أو في موريتانيا، وزادت حدة الثورات في سنة 1952م عندما عزل الفرنسيون السلطان محمد الخامس، ووضعوا مكانه محمد بن عرفة، ولكن فرنسا ازدادت في قمعها للثورة، وقامت بنفي السلطان محمد الخامس، وابنه الحسن الثاني إلى كورسيكا ثم إلى مدغشقر، وذلك في سنة 1953م.
لكن هذا لم يهدِّئ الثورة، بل زادت وتوهجت، وعُرفت بثورة “الملك والشعب”، وشعرت فرنسا أن الأمور تخرج من يدها، فاضطرت إلى إعادة السلطان محمد الخامس إلى المغرب 1955م، بل قامت بالجلاء عن الشمال المغربي سنة 1956م؛ لينال هذا القسم من المغرب استقلاله، وفي نفس الوقت رحلت إسبانيا عن منطقة الريف في أقصى شمال المغرب، وإن ظلت تسيطر على مدينتي “سبتة ومليلية”.
وقد رفض الملك الراحل محمد الخامس رحمه الله تعالى العرض المغربي الذي تقدمت به فرنسا خلال شهر أبريل 1956م والمتمثل في إعادة الصحراء الشرقية التي تزيد مساحتها عن مليون كلم مربع للحظيرة المغربية مقابل وقف كل أشكال الدعم والمساندة لجهاد الأشقاء الجزائريين.
ومع استقلال جزء الشمالي من المغرب إلا أنّ الصحراء الغربية ظلت تحت الاحتلال الإسباني، وكذلك موريتانيا ظلت تحت الاحتلال الفرنسي، وازدادت الثورات في هذه المناطق لتحقِّق التحرير كما حدث في الشمال، لكنَّ الاستعماريْن الفرنسي والإسباني قاما بالتنسيق معًا سنة 1958م في اتفاق أم قرين (شمال موريتانيا)؛ لقمع ثورات المسلمين في هذه المناطق.
وبالفعل تم الحد من الحركة المسلحة في منطقة الصحراء الغربية في نفس السنة 1958م لتتوقف لأكثر من عشر سنوات عن المقاومة، لكن الأمر في موريتانيا كان مختلفًا؛ حيث أدت الثورات إلى خروج فرنسا من موريتانيا سنة 1960م، لتعلن هذه المنطقة استقلالها، ولكن كدولة منفصلة عن المغرب، وهي المعروفة الآن بدولة موريتانيا.
شعرت إسبانيا بالقلق الشديد لاستقلال المغرب وموريتانيا، ومِن ثَم أعلنت سنة 1961م أن الصحراء الغربية محافظة إسبانية، في محاولة لصرف أذهان المغاربة تمامًا عن هذه المنطقة. وفي هذا الوقت توفِّي السلطان محمد الخامس ليخلفه في حكم المغرب ابنه الملك الحسن الثاني الذي آثر الطريق السلميّ في حل مشكلة الصحراء الغربية وموريتانيا، فلجأ إلى الأمم المتحدة لكي يطالب بتحرير الصحراء وضمّ موريتانيا إلى المغرب كما كانت قبل الاحتلال الفرنسي لها، وهذا -لا شك- أدى إلى أزمة واضحة بين المغرب وموريتانيا.
تحررت الجزائر سنة 1962م من الاحتلال الفرنسي، وما لبثت أن دخلت في صراع عسكري مع المغرب بخصوص منطقة تندوف، وهي أرض مغربية ضمها الاحتلال الفرنسي للجزائر، وطالب بها المغرب بعد استقلال الجزائر، لكنْ لم يتوصل الطرفان إلى حل؛ فدارت معركة عُرفت بـ “حرب الرمال” في أكتوبر 1963م.
وقد عمدت الحكومة الجزائرية سنة 1973 إلى إنشاء ودعم جبهة البوليساريو التي شكلها مجموعة من الشباب الصحراوي ذوي التوجه اليساري الماركسي؛ ودعمتها ومولتها كل من الجزائر وليبيا وكوبا؛ وتزايد في البداية الاعتراف بها دوليا بين الدول الاشتراكية خصوصا؛ بسبب القطبية الثنائية، حيث كانت البوليساريو تمثل المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي، ومع الثمانينيات استطاع المغرب أن يعزز وجوده العسكري في الصحراء مانعا هجمات البوليساريو العسكرية من اختراق الجدار الرملي المنيع.
والبوليساريو لا يمثلون طبعا كل شرائح الشعب الصحراوي المسلم الذي يعتز بالانتماء إلى المغرب وإلى الأمة العربية المسلمة؛ فهذه الطائفة ما ظهرت إلا بعد خروج الاحتلال الإسباني من جنوب المغرب؛ وقد جعلت خنجرا في ظهر المغاربة؛ واستغل الفكر المادي لخدمة المصالح الأجنبية في سعي مكشوف لتكريس سياسة فرق تسد؛ ولإذكاء نار العداوة بين المسلمين وتشتيت شملهم واستنزاف موارد الدولة المغربية في الإنفاق على التسلح، والرابح من هذا كله هو محتل الأمس.