إنه لشيء عجاب أن تشد الرحال إلى الوطن العزيز هالة من الهاموش الأصفر، وقد تأبطت أقلامها الصحفية، وأحلامها النرجسية، وآلات تصويرها لتغطية حدث جسيم أبطاله فتية استعبدتهم حاجات المعدة، واستبدت بهم شهواتهم الكسبية المريضة، فسولت لهم أنفسهم الاجتماع في شارع عام في محاولة منهم لتأسيس طقس المجاهرة بكبيرة الأكل في نهار رمضان الجُنة، والأعجب من هذا أن يكون حجم وعدد هذه الهالة الصحفية أضعاف هذه اللقطة المجاهرة بهذا الذنب العظيم والاجتراء الوخيم.
والمفارقة الأغرب أنه وفي الوقت الذي سارع فيه هؤلاء الإفرنج إلى مساندة هذا الزيغ والنفخ في رماده، كانت هناك سخائم محلية أخرى تؤسس لعرى المناهضة، وتبني لقواعد البغضاء الكامنة في أكوازها المجخية، تمظهرات وردود الفعل المائلة عن جادة الفطر السليمة، فتكلمت على صفحات خرقتها البالية على استفحال “ظاهرة” الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في شهر رمضان، كما خصصت جزءا من لفائف أسمالها إلى التعليق الحاقد على استغلال مريدي التراويح للطرقات والأرصفة، متسائلة في حنق وحمية عن غياب أدوات الردع والمنع لهذا الاستغلال اللاقانوني.
والأغرب من هذا كله هو السكوت الرهيب للجهاز الديني الرسمي أمام تفشي هذه الموبقات الغوامس، والذي ما فتئ يسوق لمعركته الموهومة، معركة إصلاح الدين وإعادة هيكلة ملامحه، التي أصابها الكبر وأعيا سلامتها تيارات وافدة من الشرق حيث مهبط الوحي ومهد الرسالة، فالويل كل الويل لمن خالف وصايا الوزارة العشر، فحلل الصلاة بتسليمتين، أو صعد المنبر عمدا بغير جلباب ولا سلهام، أو وقف في محرابه واضعا يمينه على شماله، أو فرط في قنوت الفجر، أو تهاون في عقد حلقة الحزب الراتب، أو أعرض ونأى بجانبه عن بدعة الذكر بعد الصلوات المكتوبة، أو عطل رفع الإنشاد المفزع توطئة لآذان الفجر، أو دخل على كواليس ما هو رسمي حاسر الرأس متناسيا للطربوش الأحمر ذي الهذبة السوداء، أو عارض السياسة العامة لصاحب المذكرة العجيبة فحذر من زيارة الأضرحة والتمسح بجدرانها البلورية، أو أدرج هذا النوع من الزيارات الملغومة في باب من أبواب الشرك والطقوس البدعية..
وهلمّ جرا من المحدثات والخاويات التي صارت بين عشية وضحاها سننا راشدة مهدية يعض عليها المغاربة بالنواجذ، وليس هذا من باب الرجم بالغيب وإلقاء الكلام جزافا على عواهنه، ولعل المتصفح لمجلة المجلس العلمي الأعلى ذات الطبعة الفاخرة، له أن يسبح طويلا بين المواضيع والبحوث التي سعى أصحابها جادين للتأصيل للمحدثات، والتقعيد لعقيدة التأويل والتعطيل، والنفخ في قبور بعض الأموات بنفس التألي على قضاء الله، باسم الولاية والقرب والفناء، وتسليط الضوء على الزوايا القائمة بالزلفى بين العباد ورب العباد، ونشر آليات التبشير الجديدة باسم وحدة الأديان ومسمّى إيجاد سبل التقارب ونقط الاشتراك، بين عقيدة “قل هو الله أحد” مع عقيدة “بل قل هو الله ثلاثة”، دون أن ننسى وقوف القارئ على أسلوب النبز والاتهام بين دفتي التلميح والتصريح للمذاهب المشرقية الوافدة على مغربنا العزيز من بلاد المشرق، والتي باتت تتقاسم خطر التهديد بالسوية مع مذهب الرافضة عباد النار أهل التشيع الماجوسي الحاقد الكالح.
وبالرجوع إلى قضية رمضان ومائدة الإفطار النهارية ومواضيع مجلة (بن غاسق) وفتيته الصعاليك، جدير بنا أن نصرح بالوضوح لا الكناية، أن تاريخ الإسلام شريعة وشعيرة قد تعرض لغارات ونوبات صرع حاقدة، أبطالها جحافل من بني البشر كانوا على عكس هذا الرعيل المستنسخ، يتقنون أسلوب الخداع والسطو وإشعال نار الفتنة والنفخ في رماد النعرات الحائفة، وفي كل جولة من جولات الصراع، ورغم أن مكر الماكرين كادت تزول منه الجبال، كان الإسلام يخرج مرفوع الهامة سوي القامة، فيتكرر ذلك الفتح الذي يدخل الناس من أبوابه المشرعة إلى دين الله أفواجا أفواجا، وهذه سنة الله وفطرته فيما قضى وقدر، ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لفطرته تحويلا.
ولكن العيب، أن جيل المواجهة الماكرة وكما يبدو من لهجة كتاباته التي عمادها الكلمة النابية المنتقاة من قواميس سوق الخضر، وأدبيات أزقة يملأها أهل العربدة والتسكع، لم يقرءوا تاريخ الإسلام المشرق، لأن مدارسهم الإفرنجية حيث تعلموا الرسم اللاتيني ولسانه كانت تلقنهم وتمتحنهم في تاريخ الأكاسرة والقياصرة، والبلاشفة والملاشفة والممالك الأوربية، فيا ليتهم قبل أن يخوضوا معركة الخيبة ضد ما هو معلوم بالضرورة أنه الأصلح والأبقى والأخلد!! يا ليتهم كلفوا أنفسهم قليل جهد للاطلاع على مخالفات أنساخهم وأسلافهم المناوئين لدولة الإسلام وحاكمية شريعته!!
ليقفوا على المستوى الفكري والقوة المادية والهامش الزمني والمكانة الرسمية ذات الامتيازات الضاربة في السفح والقمة التي تمتع بها معاشرهم، ومع كل هذا وذلك ذهب جهدهم جفاء ولم يصمد غبشهم أمام سنا برق الإسلام، بينما بقي هذا الدين محفوظا بإذن الله، تتوارثه الأجيال خلفا عن سلف في سلسلة ذهبية الحلقات يجر بعضها بعضا، فيحدث هذا الجر في خبئ النفوس المتربصة فزعا وهلعا، فتنقلب على أدبارها تجر أذيال الهزيمة ومخازي الهوان وذل الوعيد، بينما حصد أسلافنا الأشراف وعد الظفر بإحدى الحسنيين نصر أو شهادة.
أيها الإخوة الغيورين على حمى الدين، لا خوف على الإسلام عموما ولا على رمضان، ولكن الخوف ألا نفقه عن القوم مقاصدهم الدنيئة، فليس القضية قضية أكل وشرب في نهار رمضان، أو التعرض إلى صلاة التراويح بالنقد المغرض، وإنما القضية قضية مناورات تسعى إلى زرع روح اليأس بين صفوف المغاربة الموحدين، وتسعى إلى إرسال إشارات ظلامية وإيحاءات ملغومة تحكي افتراءا وكذبا حسم قضية الاختيارات الراعنة والميولات المتفسخة، التي زعموا أن المغرب اختارها شعبا وقيادة كبديل عن مظاهر التدين وتخليق الحياة العامة بمادة الحياء وشعب الإيمان، وكذبوا وربِّ الكعبة!
فهذه مساجدنا بمآذنها تلامس عنان السحاب، قد بنيت أركانها بريع من صدقات المحسنين، وزخرفت جدرانها بأبهى النقوش بهبات أهل الدثور من المسلمين، فأروني حانة واحدة، أو علبة ليلية أسّس بنيانها الضرار على مساهمات من كان راجحا أن يلجها كزبون أناء الليل وأطرافا من النهار، ليسقي ساديته بماء نجس مذهب للعقل مفسد للدنيا والدين؟!