غربة منتقبة (دعوها وما اختارت..) حماد القباج

أول ما خطر على بالي عند التأمل في الحملة التي يشنها البعض على النقاب والمنتقبات؛ أن المنتقبة مؤهلة لأن تضطلع بالحظ الأكبر من البشارة النبوية المضمنة في حديث الغربة:

عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “طوبى للغرباء” قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: “ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير مَن يعصيهم أكثر ممن يطيعهم” [رواه أحمد وصححه الألباني].
قال الشاطبي: “وذلك حين يصير المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، وتصير السنة بدعةً، والبدعة سنة، فيقام على أهل السنة بالتثريب والتعنيف”اهـ .
.. لا يمكن اختزال الصلاح في ارتداء النقاب؛ إلا أن العاقل المنصف لا يسعه إلا أن يعتبر اختيار المنتقبة الستر الكامل في لباسها -تعبدا واحتسابا- من أبرز مظاهر الصلاح والتقوى:
امرأة بدون تهديد ولا طمع في مال أو جاه اختارت لباسا يغطي بدنها..
امرأة اختارت الستر الكامل في أوج المد الإباحي…
امرأة اختارت “الجلباب والنقاب” في زمن تفشي ألبسة الموضة المتنوعة، وأنواع “الحجاب المتبرج”..
امرأة اختارت “أمهات المؤمنين” قدوة، حين اختارت غيرها “الممثلات والمغنيات”..
امرأة اختارت المستحب من صفتين في اللباس شرعهما الله عز وجل، بينما فرطت أخريات في الصفة الواجبة نفسها…
امرأة حلقت في علياء القرب من الخالق العظيم، وأقزام الإباحية والعري يتطاولون..
..إنها اختيارات تدل على نفس قوية، وهمة عالية، وإيمان راسخ، و”المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف”.
أقول لكل كاره للنقاب: رويدك فإنك لن تفقه هذه المعاني الروحانية اللطيفة العظيمة، ما دمت تعاني من فيروس الجهل بالدين وداء فقدان المناعة من شبهات العلمانية.
لذلك أقول لك: دعها وما اختارت..
أما المسلم المحب للحجاب المتقزز من النقاب فغير بعيد عن إدراك ما أعني، وإنما يحتاج إلى أن يوضح له الحكم الشرعي بمناطاته النصية ومتعلقاته الفقهية..
التجليات:
أما تجليات هذه الغربة فكثيرة؛ على رأسها:
ـ تحريك القانون لحظر النقاب في بعض الدول.
ـ سعي كثير من الأحزاب السياسية إلى ذلك في دول أخرى.
ـ عدم تدخل حكومات الدول الإسلامية لاستنكار قرار الحظر.
ـ رضى كثير من المسلمين على مساعي الحظر، أو على الأقل عدم اكتراثهم بالموضوع كما يهتمون بالأفلام ومباريات كرة القدم ونحو ذلك.
ـ مناداة بعض المستغربين والعلمانيين في الدول الإسلامية باقتفاء أثر فرنسا.
ـ تأخر العلماء الرسميين في التدخل لحماية الحكم الشرعي والدعوة إلى صيانة حق العاملات به، لا سيما في المغرب المتشبث بالمذهب المالكي.
آثار الغربة:
للغربة آثار على النفس تجعل الإنسان الغريب يشعر بالهوان والاحتقار، وهذا هو السبب في كونه يضاعف أجره، ويعظم قدره عند الله وملائكته وصالحي المؤمنين:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن من ورائكم أيام الصبر؛ للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم”. قالوا: يا نبي الله! أو منهم؟ قال: “بل منكم” [السلسلة الصحيحة 494]
فأجر المنتقبة في زمان الغربة أكثر من أجرها في غيره.
معالم في طريق الصبر والثبات:
– دوام استحضار الأصل الشرعي وأدلة مشروعية النقاب.
– دوام استحضار نية التقرب والرغبة في الأجر المضاعف.
– الإعراض عن سماع شبهات المتطاولين إلا مصحوبة ببيان العلماء الذي يكشفها.
– استحضار التجذر التاريخي للنقاب في كافة البلاد الإسلامية؛ وأنه الأصل عند المسلمات، وأن انحساره كان بسعي من المحتل وأذنابه من السياسيين والكتاب.
– لباس العبادة سلوك راسخ عند المؤمن وهو من الثابت ولا يمكن إخضاعه لنظرية التاريخانية؛ بأن يقال هذا لباس كان مناسبا لبيئة معينة وزمن معين..
فهذا يقال في لباس العادة، أما لباس ثبت له حكم “الوجوب” أو “الاستحباب”؛ فحكمه لا ينسخ بالتقادم وتغير الأزمان.
– التعامل مع المنكرين المعتدين في ضوء قول الله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان/63، 64]
فالجاهلون يستشكلون كثرة التعبد؛ سواء كان في الصلاة أو الحجاب أو غيرهما، وعباد الرحمن يجدون لذلك لذة ونشوة، لا يفقهها من حُرِمها، ولذلك يشفقون من حال الجاهلين ولا يرى منهم هؤلاء إلا السلام والدعاء بالتوفيق.
– لا تستغربي إذا قال ساركوزي: “ضيقوا على المنتقبات وافرضوا عليهن الغرامات، فإنهن لكرامة المرأة من المنتهكات”.
فقد قال أئمته في الإباحية: {أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل/56]
وقال إمامه في الإلحاد: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر/26]
إنها غربة الرسل..، فاصبري: {كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف/35].
وأيقني بقول الله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ، يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر/51-52]
وفي الختام: اقبلي منا أيتها المنتقبة أسمى عبارات التقدير والإكبار..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *