العرف البربري أو (ايزرف) بين الكتاب الفرنسيين والكتاب المسلمين

اعلم أيها القارئ الكريم أن (العرف) في بلاد المغرب الأقصى ليس خاصا بالبربر، بل قبائل العرب وقبائل البربر فيه سواسية، بل العرف عندنا معشر العرب أكثر استعمالا، ولا سيما في بلادنا سجلماسة أو “تفيلالت” وهي كورة في الجانب الشرقي من البلاد المراكشية.
والعرف عندنا مدون في كتاب، وأما البربر فلم أر لهم شيئا مكتوبا، فما هو سبب التحاكم إلى هذا العرف؟ أهو الرغبة عن الشرع المحمدي إلى التمسك العادات الجاهلية؟ كلا ثم كلا! وسأنبئك من ذلك بما لم تحط به خبرا، وأطلعك على بادية وخافية، وصاحب البيت أدرى بالذي فيه.
السبب الوحيد أن الحكومة المغربية في أكثر الأحيان كانت عاجزة عن تنفيذ الأحكام بدقة في البلاد البعيدة من مقر المملكة، وكان الحكم على عكته مقصورا على الحواضر الكبرى وما قرب منها من البوادي، وتلخيص ذلك أن مملكة مراكش ثلاث مناطق: المنطقة الغربية يحدها شمالا البحر الأبيض وغربا المحيط الأتلانتيكي وجنوبا الصحراء وشرقا سلسلة جبال الأطلس، والمنطقة الوسطى وهي سلسلة جبال الأطلس، والمنطقة الشرقية يحدها جنوبا الصحراء وشرقا بلاد الجزائر وشمالا كذلك والحكم بضبط ونظام إنما كان منحصرا في المنطقة الأولى فقط وقد يجود الزمان أحيانا ببعض وسلاطين الذين جبلوا على الحزم والشجاعة بحيث تمضي على الواحد منهم المدة المديدة وهو كما قال المتنبي:
مفرشي صهوة الحصان ولكن قميصي مسرودة من حديد
وحينئذ تحكم البلاد بإتقان وتلقي الهيبة في قلوب القبائل، إلا أن ذلك لا يدوم.
ولا يخفى أن هذه القبائل -البربر منها والعرب- تحتاج إلى قوانين يقدر شيخ القبيلة أن ينفذها بغير سجون ولا جنود لحفظ الدماء والأعراض والأموال بقدر الإمكان، ولا سيما مع غلبة الجهل وغارات القبائل بعضها على بعض، فلما كثرت الغارات والحروب بين القبائل ولم يوجد عندهم من ينفذ فيهم أحكام الشرع ويفصل بينهم خصوماتهم، اضطروا إلى وضع قوانين للصلح والهدنة والديات والنهب، فوضعوا من ذلك ما اتفق عليه رؤساؤهم بعد المفاوضات، ولم تكن تلك القوانين عامة في جميع القبائل بل وضعت كل قبيلة مع من يجاورها من القبائل ما اصطلحوا عليه، ولهذا السبب عينه اضطرت كل قبيلة أن تضع قوانين داخلية، وسأعرض عليك قوانين البلد الذي نشأت فيه وأهله من العرب الخلص.
كل من يعرف تفاصيل البلاد المراكشية يعرف قبيلة (الصبّاح) بتشديد الباء وهي عشائر تسكن القرى منتشرة في غربي وشمالي سجلماسة (تفيلالت)، والبلد الذي أحدثك عنه اسمه (أولاد جلال) من بلاد فزنة في وسط البلد قصر واسع يسمى دار القبيلة وهو أقسام: قسم للضيوف، وقسم مخازن الطعام من حب وتمر وسمن وغير ذلك، وقسم مجلس الانتخاب والمفاوضات ومجلس خاص للشيخ وآخر يجلس فيه الكتاب بدفاترهم يقيدون الداخل والخارج من مال القبيلة وجباية المال وإنفاقه، لها نظام ليس هذا محل بسطه وهناك كتاب القوانين ويسمى “كتاب الشروط” رأيته مجلدا ضخما قد كتبت فيه الأحكام على نحو هذا الضبط:
1- (حكم السارق في داخل البلد) من سرق سرقة قلت أو كثرت في داخل البلد يدفع غرامة قدرها خمسون ريالا، فإن عاد دفع مثلها، فإن عاد الثالثة دفع مثلها وأخرج من البلد، ومن شفع له يخرج معه أيضا.
2- (حكم الزاني) أن يدفع غرامة قدرها 100 ريال ويخرج من البلد.
3- (حكم القاتل) النفي من البلد أبدا إلا إذا رضي أولياء القتيل بأخذ الدية فحينئذ يمكنه الرجوع…..
هذا نموذج من كتاب الشروط، ولا أدري متى بدئ في تدوين هذه القوانين….
هذا كله فيما عدا المواريث والزواج والطلاق والبيوع والإجارات والمساقاة والمزارعة وما أشبه ذلك، فإن أحكامها يرجع فيها إلى الشرع والشيخ ينفذ ما حكم به القاضي أو نائبه، والقاضي يعينه السلطان وهو يعين نوابه.
قد رأيت نبذة من (عرف العرب) أضع بين يديك شيئا قليلا من (عرف البربر) حسبما شاهدته وتحققته، أقمت مدة في قبيلة (آيت احند) يعني أولا أحمد (وفي هذا الاسم وغيره من أسمائهم الإسلامية دليل واضح على بطلان ما زعمه بعض الفرنسيين) وهذه القبيلة منتشرة في ناحية (آزرو) فرأيت من عرفهم أن المرأة تباع كما يباع المتاع، وقد يكون ذلك في سوق (اكدره) وهي سوق سنوية يقصدونها نساء ورجالا متجملين بأحسن ما عندهم من الثياب فيبيعون ويشترون ويتزوجون بضعة أيام، وأكثر ما تباع النساء بالبقر والغنم، وقد يكون مع ذلك شيء من الدراهم، وتباع المرأة في قبيلتها وفي قبيلة أخرى تبعد من قبيلتها مسيرة يوم أو أيام حسبما اتفق، وإن هربت المرأة إلى أهلها كلفوا بردها وهي تبكي وتستغيث فلا تغاث، وإن هربت إلى حيث لا يدري ينذر الزوج أهلها ويضرب لهم أجلا فإن جاؤوا بها وإلا ردوا ثمنها، فإن وجدوها بعد ذلك أمسكوها عندهم ليبيعوها مرة أخرى، ومع هذا كله يسمون هذا زواجا ويعتقدون أنه جائز شرعا، وقريب من هذا موجود في بعض بادية جزيرة العرب إلى الآن على ما أخبرني به بعضهم.
ومن ذلك أن المرأة لا ترث عند البربر، وهم يعرفون أن الشرع يورثها ويخالفونه اتباعا للهوى لا عنادا للشرع، وكثير من العرب يضاهونهم في ذلك وهم يشعرون بأن منع المرأة من ميراثها فيه إثم ويتمنون لو يوجد فيهم قاض يحكم بالشرع وأمير ينفذ أحكامه، هذا كله في البوادي والقرى الصغيرة وأما مدنهم الكبرى كاغبالو وتنفيت وقصبة آيت ورا وخنيفرة وزاوية إسحاق والاقباب بل وبعض البوادي والقرى كمحلة سيدي علي امهاوش البربري وقرية اراكو وقرية سيدي الطيب الهواري وغير ذلك من القرى الكثيرة التي فيها فقيه كلها يقام فيها الشرع في الجملة وأهلها متدينون قريبا من تدين العرب، ولا بد أن الفرنسيين يصادفون صعوبات جمة في نفي كل من عنده علم وعمل بالدين وباللغة العربية من البربر…
فانظروا إلى هذا العرف القذر الذي يريد الفرنسيون بناة الفضيلة وأئمة المدنية أن يستبدلوه بالشرع المحمدي الطاهر ولا يستحون على ذلك أن يعيبوا المسلمين بهضم حقوق المرأة ويعيبون الإسلام لأنه لم يسو بين المرأة والرجل في الميراث، فهكذا تكون المدنية المعكوسة “يحلونه عاما ويحرمونه عاما” فاعتبروا يا أولي الأبصار.
وللبربر قوانين في القتل والمبارزة وغير ذلك، وكل ذلك ناشئ عن الجهل، وليس فيهم أحد يعتقد أن تلك شرع، بل كلهم يعترفون بأنه جرم، ويبغضون النصارى أعني نصارى أوربا الظالمين ويتأهبون لحربهم ويعاهدون الله أن لا يسلموا لهم البلاد وفيهم عرق ينبض، وفي ذلك يقول بعض شعرائهم (بلغتهم) متأسفا على استيلاء الفرنسيين في كل سنة على بعض البلاد المراكشية:
أو أو الله أيولن ورى عف اليهان أكيو سكاس اتشدو رومي شاي تميزاز
معناه: أما والله لقد عاف قلبي الملاهي، (لأنه) في كل سنة يستولي الرومي (الأوربي) على بعض البلدان.
وسمعتهم يعيبون العرب ويتهمونهم بالتساهل في حرب الفرنسيين حتى يقول بعضهم (أعراب أورمي أيداكا) يعني العربي والفرنسي شيء واحد، ويعتقدون أن إخراج الفرنسيين من المغرب إنما يكون على أيديهم، ويسب بعضهم بعضا بلفظ “أرومي” يعني الفرنسي.
أفمع هذا يزعم حزب التدمير والتخريب -لا الاستعمار- أن البربر لم يتحقق إسلامهم ولم تنشرح له صدورهم! إلى غير ذلك من الأكاذيب التي يسكت بها الأطفال؟
وليس العجب من ذلك الحزب اللهم الجشع إلى مص الدماء، وإنما العجب من بعض الصحفيين في مصر إذ صدقوا هذه الترهات وقاموا يدافعون عنها، فسجلوا على أنفسهم الجهل بحال أمة تعيش معهم في قارة واحدة وهم الذين يدعون أنهم أحاطوا بكل شيء علما في أوربا وأمريكا وآسيا، وما هذه بأول قارورة كسرت، ولا هي بأول لعبة لعبها الأوربيون على أدقان الشرقيين بتلفيقاتهم الواهية، ولا غرو فإنهم يسمونهم (كران زنفان) يعني أطفالا كبارا فهم يعاملونهم معاملة الأطفال، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
من مقال “العرف البربري أو (ايزرف)
بين الكتاب الفرنسيين والكتاب المسلمين
حقائق علمية لم يسبق نشرها” للعلامة محمد تقي الدين الهلالي
بتصرف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *