إن الإسلام جاء بالحكمة والعزم هادما للتشريك بالكلية ومحكما لقواعد السياسة الشرعية الحقة بين الرعية، فأسس التوحيد وأظهر للوجود حكومة كحكومة الخلفاء الراشدين التي لم يجد الزمان بمثال لها بين البشر.
إن الحكومة الإسلامية مؤسسة على أصول الدين، القرآن والسنة، وقد مضى عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده على هذه الأصول بأتم وأكمل صورها.
كما أن بلدنا المغرب لم يعرف غير الشريعة الإسلامية منهاجا، سار عليه في الحياة السياسية، وفي القضاء، وفي المعاملات المالية، وفي عقود الزواج وفي كل مناحي الحياة، منذ فتح التابعون هذا البلد وإلى ما قبل فرض الحماية الفرنسية -الاحتلال- على المغرب، ومما يدل على هذا، خضوع ملوكنا للشرع والحكم به وتطبيق حدوده، ونورد مثالا على ذلك، وهو ظهير شريف أمر فيه مولانا السلطان الحسن الأول رحمه الله القائد محمد بن سعيد السلوي بتطبيق الحد على من يشرب الخمر وهذا هو نص الظهير الحسني لعامل سلا في التحذير من الخمر وإقامة الحد على شاربها:
“بعد الحمدلة والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والطابع:
خديمنا الأرضى القائد محمد بن سعيد السلوي، وفقك الله، وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته.
وبعد: فقد بلغ لعلمنا الشريف ما استفز به اللعين، رعاع المسلمين، واستهواهم بغوايته وضلاله المبين، وارتمى بهم الحال إلى أن صاروا يشربون الخمر جهارا، ويعربدون في الشوارع وهم صرعى أطوارا، من غير مراقبة من حرمها في صدر الإسلام، وأوعد من يقتحم شربها بألين العقاب، وفوق إليهم السهام.
فعن مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم مخبرا عن ذي الجلال: من شرب الخمر في الدنيا سقاه الله من طينة الخبال، وهي ما يسل من جلود أهل النار.
فاعتبروا يا أولي الأبصار، على أن المخالفين باقتحام عقبات المحرمات، موجبة لسخط الله ومجلبة للآفات: “..إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ..” فيما يأتونه أو يذرونه، وقد ذم الله تعالى بني إسرائيل بما جعله بيانا لما اقترفوه فقال: “كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ..” ويكفيك في الإيعاد كونها –أي الخمر- من الخمس عشرة خصلة التي إذا فعلتها هذه الأمة حل بها الخسف أو المسخ أو غيرهما من أنواع البلاء، واستأصلتهم يد الخلاء والجلاء، بنص قوله سبحانه في كتابه المبين: “..سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ”.
وعليه فنأمرك تزجر من عثرت عليه من المسلمين معربدا، أو وجدته صريعا واللعين عليه مستحوذا، بأن تجلده ثمانين، وتودعه السجن حتى تتحقق توبته ويخلص من شؤم سمة المجانين، ويتدرع شعار المسلمين: “..إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ” كما نأمرك أن تجعل عهدة من أخرج شيئا من الملاح على البوابين، وتتوعدهم عن ذلك إن غضوا الطرف عنه أو قبضوا عليه الرشا من المبتلين، وتزجر من المسلمين من عاد إلى مخالطة أهل الذمة في شيء من ذلك في حين أو بعد حين، فإن ذلك مثلبة في الدين:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
إلا ما يتعاطاه أهل الذمة فيما بينهم فلا يتعرض لهم، لكونه مستحلهم في دينهم، وأعطوا العهد عليه، نعم يعزرون إن أظهروا السكر في غير محلهم جريا على مقتضيات الشريعة المطهرة في ذلك، والله ولي التوفيق والهادي إلى سواء الطريق، والسلام. 9 رجب الفرد الحرام عام 1304هـ. الإتحاف لابن زيدان 5/132-136.
هذه هي النظرة الشرعية للخمر التي كان يطبقها حكام ما قبل الحماية -الاحتلال 30/03/-1912.
وبعد مرور عام على توقيع معاهدة الحماية شرعت سنة 1913م شركة “كومباني ماروكان” الاستعمارية في غرس العنب الخاص بإنتاج الخمور في ناحية القنيطرة. Jean le coz. Le rharb. Fellahs et colons . T II inframar. Rabat 1964.P565.
وتم تشييد أول مصنع للجعة (البيرة) عام 1921م وكان يستهلك يوميا 28 ألف قنطار من الشعير. وكانت المصانع الفرنسية تستورد بدورها من المغرب كميات ضخمة من الشعير. وبلغت في يونيو 1924م مجموع الصادرات ثلاثة ملايين قنطار. Bulletin de la chamber de commerce et de l’industrie de Casablanca 18-7-1924. P.3.، وانظر بيان مختصر من الأمة المراكشية 8.
وبلغ إنتاج الخمر سنة 1922م أكثر من أربعين ألف هيكتوليتر، وفي سنة 1934م وصل إلى ستمائة ألف هيكتوليتر le soir marocain. Casablanca 30-5-1935 وانظر بيان مختصر من الأمة المراكشية 8، وبلغ سنة 1951 مليون هكتوليتر، وفي سنة 1952: 700.000 هكتوليتر، وفي سنة 1953: 1.200.000 هكتوليتر، وفي سنة 1954: 1.900.000 هكتوليتر وكان الاستهلاك حوالي 600.000 هكتوليتر. انظر المغرب والاستعمار حصيلة السيطرة الفرنسية 184.
كما أن المعلومات المأخوذة عن الموجزات المنشورة من طرف “Le Marche marocain ” لأيام 20 أكتوبر 1951، و10 نوفمبر 1951 و5فبراير 1953، تفيدنا في معرفة “معامل الجعة للمغرب” التي أنشأها المصرفي كراديس والشركة العامة (بنك باريس والبلاد المنخفضة)، وقد وسعت هذه الشركة مجال عملها بإدخالها مجموعات مالية أخرى ضمن مؤسستها: شركة معامل الجعة وثلاجات الهند الصينية، وبنك الهند الصينية..
وكانت الأرباح الصافية للسنوات الثلاثة الأخيرة: كالتالي: 148 مليون فرنك، سنة 1951 و179 مليون فرنك سنة 1952 و199 مليون فرنك سنة 1953. انظر المغرب والاستعمار حصيلة السيطرة الفرنسية 209.
وقد عبر أحد الرهبان في مجلة المغرب الكاثوليكي سنة 1923 عن هذه السياسة “التسكيرية” بقوله: “”الخمر، هذا المشروب الرجولي البهيج، سيحل محل الشاي الأخضر بالنعناع، المشروب المخنث، وسيصبح مشروبا وطنيا للبربر حينما يتم تنصيرهم” Revue ; Maroc catholique. 1923. d’après Julien. Le Maroc. Op. P.159. Rèf . 11، كفاح المغاربة 113، بيان مختصر من الأمة المراكشية.
وعندما انفجرت أزمة تسويق الخمر المنتجة بالمغرب سنة 1935 وتدنت الأسعار بسبب المنافسة “اتخذت الإدارة الفرنسية قرارا يسمح بموجبه للمغاربة المسلمين بشرب –البيرة، فرحب المعمرون بالقرار، وطالبوا بتعميمه على سكان البوادي، ورفع المنع عن كل أنواع الخمور، لأن ذلك سيحد من مقاومة الفلاحين للاستعمار، لأن الدين يسيطر على أدمغتهم التي لا بد أن تلين حينما تسقيها جرعة الخمر”. كفاح المغاربة 134، وبيان مختصر من الأمة المراكشية 10.
وقد قامت كتلة العمل الوطني بمحاربة سياسة التسكير هذه، ونظمت حملة من الاحتجاج في مدن الرباط- سلا وفاس ومراكش ووجدة والدار البيضاء اضطرت معها الإدارة الفرنسية إلى التراجع عن التشجيع السافر لتعاطي الخمور، وفي يوم 5 مايو 1937م صدر قرار وزاري يمنع بيع النبيذ للمغاربة المسلمين.
إلا أن القرار بقي حبرا على ورق لأن السماح للنصارى واليهود باقتناء الخمور لا يمكن أن يمنع المسلم من الحصول عليها، والأهم من ذلك هو أن المستعمرين لم يفكروا لحظة واحدة في التخلي عن تجارة تدرُّ عليهم الأرباح، وليس من مصلحتهم ترك الشباب الذي يهدد وجودهم سليم العقل والجسد، ولذلك تمادوا في تشجيع الاستهلاك.
وشن المقاومون هجومات على الحانات في الأحياء الأوربية، وأحرقوا بعض الأماكن التي تعرضها للبيع وأطلقوا النار على باعتها وفي بعض الجهات خربوا المعاصر.
ومن عجائب الزمان أن بعضا من الوطنيين الذين كانوا محسوبين على صف المحاربين للسياسة الفرنسية في تسكير المجتمع المسلم، سيطروا على الضيعات المنتجة لعنب الخمر، وعلى معامل الخمور وأصبحوا من كبار “الكرابة” المتاجرين في بيع الخمر داخليا وخارجيا.
وبالرغم من أن وزير العدل أصدر سنة 1958 منشورا ينص على ضرورة محاربة انتشار الخمور، وتلاه ظهير 1967 الذي أكد منع بيع المشروبات الكحولية للمغاربة المسلمين، وأن القانون المغربي الحالي ينص على أن شرب الخمر جريمة يعاقب عليها القانون مستثنيا من ذلك غير المسلمين، ولكن الواقع شيء آخر فكل هذه الأسواق الكبرى التي تبيع ملايين القنينات من الجعة ومن الخمر الأبيض والأحمر لا تبيعه إلا للمغاربة المسلمين، كما أن الحكومات التي توالت على مغرب الاستقلال تعاملت مع سياسة التسكير بمنطقين: منطق قضائي ينص على معاقبة كل شخص وجد في حالة سكر وهو لا يطبق إلا في حالات محدودة، ومنطق اقتصادي يرى في صناعة الخمور وبيعها مصدر مالي تدر أرباحه في خزينة الدولة، وبين هذين المنطقين ضاع حكم الله في الخمر وشاربها وعاصرها وبائعها وحاملها والمحمولة إليه…