(من كان بيته من زجاج فلا يرجم بيوت الآخرين بالحجارة).. إنها حكمة عالمية عميقة، وهي تُضْرَبُ للشخص الذي يتصف بعيوب ضخمة مخزية ثم يملك من الصفاقة ما يكفيه لتتبع هنات تافهة لدى الآخرين، بل ربما كان خصومه الذين يهاجمهم برآء حتى من اللمم العابرة التي يبهتهم بها!!
هذه بالضبط هي حال فرنسا التي قررت إصدار قانون يمنع إنكار “إبادة الأرمن”، التي يزعمون أنها وقعت على أيدي الأتراك في السنوات الأخيرة من عمر الدولة العثمانية..
ولا بد قبل الخوض في القضية، من تسجيل تحفظ مبدئي واجب على التلبيس الذي يمارسه كثيرون عن جهل نادراً وعن خبث غالباً، وهو أن الدولة العثمانية انتهت فعلياً منذ انقلاب غلاة الطورانيين على السلطان عبد الحميد الثاني في عام 1908م، حيث أصبحت القيادة الحقيقية للدولة في قبضة يهود الدونمة المتظاهرين بالإسلام، وكانت غايتهم تحطيم الدولة نهائياً!!
فإذا تجاوزنا هذا الاحتراز اللازم لإزالة التلبيس الجائر، وولجنا في خلفية الموقف الغربي من المسألة، فإننا نقول بكل ثقة: إن الغرب كله -من حيث المبدأ- لا يحق له إعطاءنا دروساً في الأخلاق والسماحة، فتاريخه -بحسب أمهات مَرَاجعِه الموثقة ومؤرخيه أنفسهم- حافلٌ بمذابح من النادر أن عرف لها التاريخ الإنساني مثيلاً!!
فحتى همجية التتار والمغول ليست كوحشية أوربا وتشعباتها في أمريكا وأستراليا. فالسياسة الدموية لدى هؤلاء المتخلفين كانت عابرة وليست متأصلة؛ فضلاً أنها لم تكن استئصالية، أما الغرب فثقافة الاستئصال راسخة تدمغ ماضيه المخزي كله، من مجازره الدينية الصليبية ثم في الداخل الغربي (مجازر الكاثوليك والبروتستانت) وإبادة السكان الأصليين في العالَم الجديد (قارة أمريكا بشطريها الشمالي والجنوبي وقارة أستراليا)، مروراً بحربين كونيتين رهيبتين فتكتا بعشرات الملايين من الضحايا، واستخدام أسلحة التدمير الشامل (الإنجليز ضد الأكراد قبل نحو 100سنة والقنبلة الذرية الأمريكية على اليابان..).
ولا ننسى إقامة الكيان الصهيوني على حساب الشعب الفلسطيني ومواصلة الغرب دعم اليهود العدوانيين التوسعيين حتى يوم الناس هذا، ولا يفوتنا إرث فرنسا البغيض ضد شعب الجزائر على مدى 132 سنة متصلة من سياسة الأرض المحروقة، ولا حملة نابليون على مصر 1798م، وقتل 4000 أسير في عكا بعد استسلامهم ومنحهم الأمان!!
وأخيراً ينبغي التذكير بمذابح مسلمي البلقان وبخاصة مجزرة سربرينتسا بتواطؤ كتيبة هولندية ترتدي قبعات الأمم المتحدة الزرقاء…
والمفارقة الثانية، أن يصبح الفصل في قضية تاريخية شائكة كَلَأً مباحاً لتجار السياسة والباحثين عن الشهرة والشعبية على حساب الحقيقة، والعقل السليم يقطع بأنها مسألة تخص المؤرخين النزيهين الباحثين عن الحق.
وثالثة الأثافي في السخافة الفرنسية الأخيرة، أنها امتداد لسفاهة سابقة تتمثل في قانون فابيوس الذي يمنع البحث -أجل:البحث- في عدد اليهود الذين قضى عليهم النازيون في ألمانيا في أثناء الحرب العالمية الثانية (1939-1945م)، لأن الرقم الذي فرضته الدعاية الصهيونية -ستة ملايين شخص- بات رقماً “مقدساً”!! لا تجوز مناقشته حتى بوثائق يهودية دامغة كتلك التي استند إليها روجيه جارودي فساقوه إلى المحكمة التي قضت بسجنه وتغريمه مبالغ طائلة.
إن الفخ الذي يتعين أن نجتنب الوقوع فيه هو القبول بمناقشة القوم في ادعائهم الواهن، بينما تقتضي الحكمة كبح دجلهم برفض إخضاع التاريخ -أي تاريخ- لتجارة الساسة؛ وهوجاء العصبيات العمياء؛ وزئبقية الأحكام الانتقائية المعلبة!!
فلا يجوز الخضوع لمراوغة الصليبيين بنفي مزاعمهم التائهة البائسة ولا بإثباتها، فميدان تلك المناقشات ينحصر في الجامعات ومراكز البحوث المتخصصة وأدواتها الوثائق والمعطيات الثابتة.
لذلك فنحن لا نقف هنا مع إخوتنا في تركيا بسبب هوى حتى لو كان تأييدهم واجباً، وإنما نضع القضية في سياقها السليم، وندافع عن الحق بصفة مبدئية نزيهة إرساء لميزان العدالة الشاملة والدائمة، وهو الميزان الذي لا يحابي زيداً ولا يكره عَمْراً.. (موقع المسلم).