مَن المؤهَّلُ لفهم النُّصوص الشَّرعيَّة؟

من الأمور التي لابدَّ من بيانها وتوضيحها أنَّ النُّصوصَ الشَّرعيَّةَ قسمان:
الأوَّلُ: نصوصٌ صريحةٌ واضحةُ الدِّلالة
وهي أغلبُ نصوص القرآن والسُّنَّة؛ فالقرآنُ معظمُه واضحٌ وبيِّنٌ وظاهرٌ لكلِّ الناس؛ كما قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنهما: التَّفسيرُ على أربعة أوجه:
– وجهٌ تعرفه العربُ من كلامها.
– وتفسير لا يُعذَر أحدٌ بجهالته.
– وتفسير يعلمه العلماء.
– وتفسير لا يعلمه إلا الله، مَن انتحلَ منه علمًا فقد كَذَبَ. (تفسير الطبري 1/75).
ففي القرآن قسمٌ يعرفُه كلُّ مَن قرأَه؛ إذ لا صعوبةَ في فهمه؛ فالحلال فيه واضح، والحرام واضح، وكذلك الحدود، وفرائض الدِّين، وما فيه من قَصص وعبر، وهذا الجانب من القرآن يشكِّلُ القسمَ الأكبرَ منه؛ فهو سهلٌ مفهومٌ.
فالقرآنُ آياتٌ بيِّناتٌ واضحاتٌ في الدِّلالة على الحقِّ؛ أمرًا ونهيًا وخبرًا، (تفسير ابن كثير 6/286)؛ كما قال تعالى: {بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} [العنكبوت:49].
وقال تعالى: {قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [النساء:28]؛ أي: جعلناه قرآنًا عربيًّا واضحَ الألفاظ سهلَ المعاني؛ خصوصًا على العرب. (تفسير السعدي 723).
قال ابنُ القَيِّم رحمه الله: «وكذلك عامَّةُ ألفاظ القرآن؛ نعلم قطعًا مرادَ الله ورسوله منها، كما نعلم قطعًا أنَّ الرَّسولَ بلَّغها عن الله؛ فغالبُ معاني القرآن معلومٌ أنَّها مرادُ الله خبرًا كانت أو طلبًا؛ بل العلمُ بمراد الله من كلامه أوضحُ وأظهرُ من العلم بمراد كلِّ متكلِّم من كلامه؛ لكمال علم المتكلِّم وكمال بيانه، وكمال هداه وإرشاده، وكمال تيسيره للقرآن؛ حفظًا وفهمًا، عملاً وتلاوةً». (الصواعق المرسلة 2/636).
الثَّاني: نصوصٌ دقيقةُ الدِّلالة
وهذه يقوم أهلُ العلم والاجتهاد بالنَّظَر فيها لاستنباط المسائل والأحكام واستخراجها منها، وللحيلولة دونَ حصول الفوضى وادِّعاء المدَّعين غير المؤهَّلين للاستنباط وَضَعَ العلماءُ ضوابط وشروطًا يجب توافُرُها فيمَن يتصدَّر للاجتهاد والاستنباط تؤهِّلُه للوقوف على الحكم حسب جهده الذي يبذله لذلك، وهذه الشُّروطُ والضَّوابطُ محصَّلةٌ من قواعد اللُّغة العربيَّة وما عرف من خطابات الشَّارع من أمر ونهي وخبر وغير ذلك.
وهذه النُّصوصُ غيرُ واضحة الدِّلالة، قد يختلف العلماء في فهم المراد منها؛ كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]؛ فهل القرء هو الطُّهر من الحيض، أم هو الحيض؟
وهذا الاختلافُ في دائرة الاجتهاد الذي يدور صاحبُه بين الأجر والأجرين، وممَّا يلاحَظُ في بعض البرامج الحواريَّة عبرَ وسائل الإعلام المختلفة؛ من فضائيَّات وإذاعات ومجلَّات وصحف، ما يَسْلُكُه بعضُهم حين يضيق عليه الخناق في النِّقاش من القول بأنَّ الدِّين ملكٌ للجميع؛ فليس لأحد أن يدَّعي حقَّ احتكار تفسيره وفرضه على النَّاس؛ لأنَّه لا يوجَد في الإسلام بابويَّة ولا كهنوتيَّة!
وهذه كلمة حقٍّ أُريدَ بها باطل؛ فالحقُّ: أنَّ الدِّينَ من حيث تطبيقه والعمل بأحكامه ليس خاصًّا بأحد؛ أمَّا الباطلُ: فهو إخضاعُ تفسير نصوصه لرغبة كلِّ إنسان وهواه؛ بحيث يُؤَوِّلُ نصوصَه بحسب التَّشَهِّي الذي يريده؛ لأنَّ هذا يجرُّ إلى تمزيق الأمَّة، وجعل النُّصوص ألعوبةً بيد غير المؤهَّلين؛ لاستنباط الأحكام منها.
وهذا ما حصل عند ظهور هذه الدَّعوة؛ ممَّا أدَّى إلى الاستخفاف بمجتهدي هذه الأمَّة من الصَّحابة ومن بعدهم، وإحلال الفوضى في القول والفتوى محلَّ الاجتهاد الحقِّ والدِّقَّة فيه.
وقد لاحظ تلك المشكلةَ الحافظُ ابنُ رجب رحمه الله واشتكى منها قائلاً: «يا لله العجب! لو ادَّعى معرفةَ صناعة من صنائع الدُّنيا، ولم يعرفه الناس بها، ولا شاهدوا عنده آلاتها، لكَذَّبوه في دعواه، ولم يأمنوه على أموالهم، ولم يمكِّنوه أن يَعملَ فيها ما يدَّعيه من تلك الصِّناعة؛ فكيف بمن يدَّعي معرفةَ أمر الرَّسول صلى الله عليه وسلم، وما شوهد قطُّ يَكتب علمَ الرَّسول، ولا يُجالس أهلَه ولا يدارسه.
فلله العجب! كيف يقبل أهل العقل دعواه، ويحكِّمونه في أديانهم، يفسدها بدعواه الكاذبة؟!» (الحكم الجديرة بالإذاعة 20).
إذا أحدٌ أتى في أيِّ علم بفتوى أو برأي أو مقالَه
كَتَمْناه بأجوبة: تمهَّل! *** فإنَّ لكلِّ معلوم رجالَه
سوى علم الشَّريعة مستباحٌ *** لكلِّ النَّاس حتى ذي الجهالة
فكلُّ العلم محفوظ مصون *** عداه لكل إنسان حلال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *