بعد أن عشنا دهراً نسمع عن (الإجماع) العربي بلاءاته المشهورة «لا اعتراف.. لا تفاوض.. لا صلح مع الكيان الصهيوني» و«لا تفريط في شبر.. في بوصة.. في حبة رمل من الأرض»، و«لا تنازل عن: عودة اللاجئين.. عن إعادة القدس.. عن الانسحاب إلى حدود 1967م.. عن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة..»، بعد كل هذا أصبحنا نسمع باسم الواقعية والعقلانية والمصلحة الوطنية والإقليمية عن طروحات وشعارات في شكل لاءات من قبيل: «لا بديل عن السلام كخيار استراتيجي».. «لا جدوى من المقاومة».. «لا سبيل إلا مائدة التفاوض».. «لا حل عن طريق الحرب».. «لا أوراق إلا بيد أمريكا».. «لا لعسكرة الانتفاضة».. «لا فرار من حتمية التطبيع».. «لا أمل في عمل عربي مشترك».. «لا مجال أمام الفلسطينيين إلا الاعتماد على جهدهم الذاتي».. «لا مشروعية إلا للشرعية الدولية»!
وفي المقابل.. نتحدى العلمانيين العرب، أن يكون (العلمانيون) أو المتدينون في دولة اليهود، قد تنازلوا عن (لا) واحدة من لاءاتهم الثابتة منذ قامت تلك الدولة؛ فالصهاينة يرفعون لاءاتهم -في السر والعلن، وبلسان الحال أو المقال- فيقولون: «لا عودة لحدود 1967م»، «لا تفاوض حول القدس بقسميها عاصمة موحدة وأبدية للدولة الإسرائيلية»، «لا رجوع عن يهودية يهودا والسامرة» أي الضفة الغربية، «لا مجال لإعادة اللاجئين»، «لا جلوس ولا تفاوض مع مَنْ يحمل السلاح»، «لا ترسيم للحدود»، «لا تنازل عن بقاء الدولة خالصة لليهود»، «لا وزن لما يسمى بالشرعية الدولية إذا هددت مصالح الدولة اليهودية»، «لا سماح بدولة فلسطينية إلا منزوعة السلاح مقطعة الأجزاء»، «لا صلح.. لا تفاوض.. لا تطبيع.. لا اعتراف متبادل، بل لا أمان لزعيم أو نظام إلا بعد التخلي (نهائياً) عن الدخول كطرف في الصراع ضد دولة (إسرائيل)»!
ومع أن اليهود لم يتنازلوا يوماً عن شيء من تلك اللاءات، قولاً أو عملاً، بل حشدوا لأجل حمايتها قواهم الذاتية والمتعدية؛ فإن العرب -في ظل العلمانية المتخاذلة- ساهموا في حفظ لاءات اليهود من أن يمسها ضعف أو انتقاص؛ حيث عطلوا جُل عوامل القوة في الأمة، وأبطلوا كل سلاح كان يمكن لها أن تستعمله للدفاع عن حقوقها المشروعة ديناً وعرفاً وقانوناً؛ فلا الحروب في نظرهم مجدية.. ولا المقاطعة أو المقاومة مغنية.. ولا الدفاع المشترك أصبح صالحاً.. ولا النفط عاد سلاحاً.. ولا دعم المجاهدين صار مباحاً.. لا سماح بفتح الحدود، بما يهدد أمن اليهود!
لا، بل إن الأمر لم يعد تبرعاً بشل قوى الأمة وفلّ أسلحتها، بل تجاوز ذلك إلى (دعم).. نعم! دعم العدو، في كل مجال يمكن أن يُدعم فيه.. كالتسابق في دعوتهم لحضور المؤتمرات.. وفتح السفارات والقنصليات، ومكاتب تبادل «المصالح» والاستشارات وتعاون الاستخبارات.
ووصل الاستهتار بأمر القضية إلى أن تصبح مثاراً للهزء والضحك في اجتماع قمة الدول العربية؛ حيث استمع العرب والعالم معهم إلى «فيلسوف العرب» في حديث هراء مخرَّف يدين فيه أمجاد الجهاد في فلسطين، ويصف أصحابه السابقين واللاحقين بالغباء مرة، وبالإرهارب أخرى، ويتهم من لا يزالون يخلصون للقضية بالجمود وعدم الواقعية التي أصبحت تفرض القبول بدولة (إسراطين) كجماهيرية شعبية اشتراكية ديمقراطية فلسطينية إسرائيلية يهودية عربية عبرية.. عظمى..! (صفاً لهزيمة التطبيع.. لا تطبيع الهزيمة، د.عبد العزيز كامل).