لا يختلف اثنان من المهتمين بقضية المرأة المغربية أن وضعية هذه الأخيرة تحتاج إلى إصلاح في عامة المجالات الأسرية والاجتماعية، إلا أن الاختلاف شديد في تعيين المرجعية الأولى والأساسية لذلكم الإصلاح؛ فبينما تؤمن الشرائح الواسعة من المجتمع المغربي -يتقدمها العلماء ودعاة الإصلاح- أن المرجعية التي ينبغي أن تعتمد هي الشريعة الإسلامية بما تتميز به من ثروة تشريعية معجزة، ومنظومة أخلاقية سامية، يرى البعض أن الإصلاح المذكور إنما يكون في إطار المرجعية الدولية المتمثلة في مواثيق وتوصيات الأمم المتحدة، التي أطرت قضية المرأة عبر مؤتمرات ودراسات وأبحاث أسفرت عن تلك التوصيات، وقد وضعت آليات لتنفيذها وتجسيدها في أرض الواقع.
والمستغرب حقا أن ثمة من يحاول إقناعنا بأن المرجعيتين منسجمتان ومتكاملتان، وهو طرح لا يمكن قبوله ولو مجاملة بسبب التصادم الشديد بين ذينك المرجعيتين في الأصول وكثير من الفروع.
وهذا الطرح الخاطئ يتمسك به مناصرو شريعة الأمم المتحدة لتفادي الاصطدام مع الفئات العريضة من الشعب المغربي التي يهدر حقها في تفيئ ظلال شريعة دينها، لمصلحة التوجه النسائي العلماني الذي يؤمن بشريعة الأمم المتحدة إيمانا بلغ درجة اليقين الحامل على الجهاد والنضال ضد شريعة الإسلام التي لا تتوافق مع أحكام شريعة الأمم المتحدة!
وإذا كانت فوزية عسولي رئيسة الرابطة الديمقراطية لحقوق المرأة قد ترددت -في هذا الصدد- في مطلبها بتغيير شرع الله تعالى في الإرث؛ فإن خديجة الرياضي رئيسة الجمعية المغربية لحقوق الإنسان كانت أكثر جرأة وإقداما حين صرحت بوضوح أن “رفع التحفظات المتعلقة بمواد الاتفاقية الدولية للقضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة؛ يشمل المواد 9و15و16و29 من الاتفاقية، والتي تتعلق بالأهلية القانونية للمرأة ومساواتها في ذلك مع الرجل، والمساواة في كل ما يتعلق بالأحوال الشخصية بين الرجل والمرأة بما في ذلك الإرث، وكذا إمكانية متابعة دولة أجنبية من الموقعين على الاتفاقية للدول المغربية أمام محكمة العدل الدولية إذا ما حدث خلاف حول تفسير أو تطبيق هذه الاتفاقية”. (الجريدة الأولى العدد 175).
وبلهجة ملؤها نشوة الانتصار واليقين بإشباع الإرادة المضادة لدين المغاربة تضيف: “يجب على الدولة ملاءمة القوانين التي تنظم هذا المجال بمنع زواج الفتيات القاصرات، ومراجعة النيابة الشرعية على الأبناء، والسماح للمرأة المسلمة بالزواج من غير المسلم، والمساواة بين الجنسين في الإرث”. (الجريدة الأولى العدد نفسه).
وبهذا تخطو النسوية العلمانية خطوة جريئة في سبيل تحقيق ما تبقى من مطالبها المتعلقة بقانون الأسرة، وإن كانت هذه المطالب تصادم أحكاما شرعية ظاهرة الأدلة من القرآن والسنة، بل منها أحكام قطعية معلومة من الدين بالضرورة!!
.. وإذا كانت الرسالة الملكية التي تلاها محمد معتصم مستشار الملك في مقر المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان يوم الأربعاء الماضي، قد أكدت رفع التحفظات التي كان قد أبداها المغرب حول بعض مواد الاتفاقية المذكورة؛ فإنها لم تفصل القول في تلك المواد، مما يبقي مجالا لقصر هذا الإجراء عمليا على ما لا يصطدم مع أحكام الشريعة، ومعلوم أن من الخطاب العام ما يراد به الخصوص، وهو لسان عربي مطروق، سيما في الخطابات السياسية..
وقد صرحت الرياضي نفسها في تصريح للتجديد (ع 2033) بأنه “لا يمكن الجزم بما إذا كان هذا الإعلان يشمل كل التحفظات”!
.. لقد طارت النسوية العلمانية بقرار رفع التحفظات كل مطار، وعبرت عن “فرحتها الشديدة وارتياحها الكبير”، بل ذهبت به إلى أبعد الحدود حين لوحت بإمكانية تعديل الدستور ليتواءم مع رفع التحفظات، بل إنها لم تملك نفسها من التهديد بمحاكمة المغرب إذا لم يطبق مقتضيات رفع التحفظات تطبيقا كاملا وشاملا كما في كلام الرياضي المتقدم!!
وهذا يجعلنا ندرك السر وراء الإلحاح على المغرب للانضمام إلى اتفاقية التحاكم إلى المحكمة المذكورة.
وهكذا انتقلت النسوية العلمانية إلى مرحلة متقدمة في (نضالها) في سبيل شريعة الأمم المتحدة التي ترى فيها -لسبب أو لآخر- الخلاص للمرأة العربية، معرضة عن شريعة الإسلام، معتبرة إياها متجاوزة أو قاصرة عن تلبية طموح المرأة!
ويبدو أن لغة الأدب والحجة الشرعية التي خاطب بها العلماء ودعاة الحركة الإسلامية؛ النسوية العلمانية التي أحيت مطلب المساواة في الإرث؛ لم تؤت أكلها، ولم تكن كافية لإرجاعها عن مطلبها ذلك.
بل كشرت عن أنيابها واستعرضت عضلاتها بما يجعل العلماء يتمثلون قولة المثل: “ألا إني أكلت يوم أكل الثور الأبيض”.
أجل؛ أشهر القوم آخر أسلحتهم في هذا الصراع الشرس ضد البقية المتبقية من أحكام الشريعة الإسلامية في مجال المعاملات، وبلغ الأمر إلى درجة التلميح بالمطالبة بتغيير الدستور ليتجاوب مع التطور الأخير في الباب، والتهديد بتعريض المغرب للمحاكمة والعقوبات الدولية!!!
وتشكل هذه السابقة -لعمر الله- جناية كبرى على بلد آمن، وكفى به شؤما جره التمكين لشرذمة من المتنفذات أفسدن أحوال الأسرة فسادا أوسع من الذي كانت تتخبط فيه، وهاهي ذي توسع دائرة الشر وتركز محور الفساد ليمتد قطره إلى باقي مكونات المجتمع.
.. وهذه المستجدات التي أطل قرنها بمناسبة الاحتفال بالذكرى الستين لحقوق الإنسان تضطرنا للتساؤل:
عن أية حقوق نتحدث إذا كنا نهضم حقوق شعب من أجل فئة متغطرسة متنفذة؟
ألا يمثل هذا انتهاكا لحق المغاربة في التمتع بأحكام شريعتهم المنظمة لأحوالهم الشخصية؟!
لماذا نُحجّم حقوق الإنسان ونجعلها خادمة لفكر الاستغراب والانسلاخ، على حساب الأصالة وإرادة أحرار الأمة من وطنيين وعلماء وفاعلين في كافة المجالات؟!!
وماذا سيربح المغرب والمغاربة من وطئ هذه الإرادة بنعال إرادة دخيلة تمثل طليعة جيوش العولمة الماسخة؟!