إن هذا التمرد العلماني الغاشم الذي تشهده الساحة الإسلامية اليوم لا يمكن عند الوقوف مع معاينته بعين مؤمنة بالقدر خيره وشره أن ننحوا به في الاتجاه الذي يصنفه في باب الشرور المحضة؛ ذلك أن هذا التمرد هو في النهاية ليس إلا ظهور نوع من البغضاء التي تلوكها اليوم ألسن صنف من بني الجلدة لا يزال في قلوبهم الكثير مما وصفه الله بالأشد.
ولذلك حقّ على كل غيور ألا يحسب الأمر شرا له ولأمته بل إن وجه الخير في هذه الجعجعة هو أن تعرف نوع طحينها؛ وأن تقف على زرع ما وراء أكمتها، أو لعل الأمر فيه شيء من المقابلة فكما كنا قديما ولا زلنا حديثا ولم نبدل تبديلا ولم نغير تغييرا؛ نقولها بملئ الفم والوجه الصلد أننا كفرنا بحداتثكم واشتراكيتكم وعلمانيتكم.
فكذلك اليوم -مع البعض الفارق- القوم نراهم قد أخرجوا بشيء من التقية التي تشوبها الجرأة والصفاقة بعضا من ذلك الخبء المكنون في صدر العلمانية؛ لكننا نستدرك لنرجع إلى ذلك البعض من الفارق الذي أشرنا إليه سلفا من وجه كون هذه الطغمة العلمانية؛ وإن كانت اليوم تملك الكثير من الجرأة على ضرب عرى الدين والسخرية من نصوصه وشرائعه وشعائره؛ لكنها وهي تمارس هذه الوظيفة النتنة لا تزال تحتفظ بحق الرد؛ ورفع الدعاوي؛ وإقامة الدنيا وإقعادها؛ وافتعال الضجة؛ والرمي بتهمة التطرف والظلامية والغلو؛ إذا ما شكك أحد في انتسابها إلى الإسلام؛ أو استصغر مقام تدينها؛ أو زايد في قضية ولائها الديني.
حتى أن هذا الفارق يكاد يكون ”كنزي” التغير يحركه بين الإفراط والمداهنة؛ وبين الغلو والتقية؛ سعر الفائدة الذي تتحكم فيه سلطة السوق بين المحلية والإقليمية، أو بين الإسلامية والكونية، وليس الكلام هنا من باب الرجم بالغيب إنما هو ثمرة استقراء لمواقف القوم وخرجاتهم الحائدة.
فوزيرة الثقافة الجزائرية مثلا وهي تزدري شعيرة الصلاة التي هي عماد ديننا لم تنس أن تنسب شعيرة الركوع والسجود إلى ابتكار بدو السعودية النخاسيين؛ وأن الأمر لا دليل ولا ذكر له في القرآن الذي نراه قد استوعبت تعلمه ومدارسته وتدبره حتى خرجت لنا بهذا الحكم الذي لم تستطعه الأوائل من صنف أولئك الذين إذا سمعوا قول الله أو وقفوا مع قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} خروا سجدا وبكيا خشية من هذا الصدود الذي يليه جزاء وفاقا ذلك النفور وزيادة.
وهنا نقف وقفة تأمل لنربط بين سعي القوم وكدهم وكيدهم الذي فرقته جغرافية المسقط وحمله إلينا أثير الوحدة الإيديولوجية وهو ربط يحيلنا على تساؤل مفاده؛ ونحن لنا عقيدة ولا نؤمن بالصدفة؛ عن تزامن هذا التصريح الخاسئ مع الطرح الذي تناول من خلاله السيد البليد علاقة أداء الموظف لشعيرة الصلاة مع الأداء المهني ونجاعة المردودية، وإن كانت هذه العربدة تحتاج إلى توجيه وتنبيه وذكرى على أن هذه الجنازة وهذا العويل وهذا النياح الذي يكاد يكون نباحا على تدني مردودية وعطاء الوظيفة العمومية؛ ووضع رتابتها وعدم فاعليتها، وعلى التسليم بهذا الطرح مرده إلى صلاة وحيدة هي التي تستوعبها ساعات العمل قد يقضيها الواقف بين يدي الله في دقائق معدودة لا تفسد لود المنصف قضية، وهي صلاة العصر.
ومع ذلك جعل هذا العلماني ولا نزيد المتطرف لأننا لا نرى في القنافذ أملس اللهم ذلك التفاوت في الجرأة؛ والصفاقة على مستوى التعبير بالتي هي غير أحسن على المكنون المشترك والخبء المضمر في صدور كل بني علمان؛ وإن عمروا بيوت الله وإن صاموا حمية؛ وإن حجوا سياحة؛ وسمعة ومغنما.
وليس في هذا نوع تجني فمواقف القوم أسفر عليها صبح الحق؛ وسلطت عليها أشعة النيون؛ ولطخت بمدادها مناديل الأعمدة الصحفية المنحازة غير البريئة؛ وليس دفاعهم عن الخصوصية والفقه المالكي والتصوف غير السني، وهم الذين لا يفرقون بين الوضوء بفتح الواو والوضوء بخفضها؛ ووقوفهم ضد ما رموه بالتهريب الديني، وكذا نعتهم للحج بالمضيعة للوقت والتبذير للمال من أجل مناسك رموها بالوثنية العائدة، ودفاعهم المستميت ووقوفهم البطولي مع فتية الإفطار العلني في نهاريات الشهر المبارك..
زد على هذا كله هذه الخرجات المتواليات لهذا السيد البليد الذي نراه اليوم قد تجاوز الحدود واقتحم عقبة المحرم؛ فبعدما دعا إلى إبدال تحية الإسلام بتحية شيشونغ الخرافي، نراه اليوم على غير استحياء ينعت رسائل الرحمة المهداة للعالمين السيد العظيم والنذير البشير سيد ولد آدم ولا فخر بالرسائل الإرهابية.
ولنجرد الكلام ونعريه لنقف على حقيقة الرمي ونضعه في سياقه الذي يقيد التهمة بنبي الإسلام وحاشاه ثم حاشاه، واسمع إليه وهو يطارح في محاضرة بعنوان “الحقوق بين الإسلام والقيم الكونية” إذ قال وبئس قوله “فالرسالة التي تدرس في المقرر لتلامذتنا وهم في سن 16 في الحقيقة رسالة إرهابية لأنها ترتبط بسياق كان الإسلام ينتشر فيه بالسيف والعنف أما اليوم فقد أصبح المعتقد اختيارا شخصيا حرا للأفراد ولا يمكن أن تدرس للتلميذ رسالة تقول إما أن تسلم وإلا أنك ستموت وتدرس على أنها من القيم العليا”.
والآن تعالوا بنا بكل تجرد لنقتفي هذا الأمر بكل حياد وموضوعية؛ ولنضع أولا خطا أحمرا على كلمة العطف على السيف ونعني بها كلمة “عنف” لنسأل الأفاك الأثيم عن كم وعدد الذين أعمل الإسلام سيفه وبعنف في رقابهم، ثم ندعوه إلى أن يقارن بين ذلك الكم والكيف من ضحايا الكفر مع هذا الركام الضارب في الطول والعرض من أشلاء وجثث أهل الإسلام التي أعملتها الآلهة الحضارية الغربية من الطائرات القاذفة للموت؛ والقنابل الفسفورية والعنقودية؛ التي لم تراعي حرمة حي ولا ميت ولا صغير ولا شيخ كبير ولا بغال ولا حمير.
ثم لنجعل كلمة عنف في منطقة أعراف بين ذلك الكم وهذا الركام، ثم على من تحصل له الترجيح فليضع كلمة عنف وسيف وإرهاب في سياقها المتصل بكل حرية وتجرد وحياد.
ولنذهب ثانيا لنضع خطا آخر أحمرا سميك تحت كلمة “رسالة إرهابية” لنسأل هذا الرويبضة عن وجه الإرهاب في عرض رسالة الحق رسالة الإسلام على ملوك مصر والحبشة وفارس والروم ثم نستدرك على زعمه: “أما اليوم فقد أصبح المعتقد اختيارا شخصيا”، لنهمس في أذنه لعله يلقي السمع وهو شهيد مقررين حقيقة أن هذا العرض كان مشفوعا وموقعا بقاعدة “لا إكراه في الدين” بعدما تبين بالتبليغ والتصريف الذي مبناه على الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتالي هي أحسن الرشد من الغي.
فأين هذا مع هذا اليوم الذي صار فيه أمثالك يشهرون العصا دون الجزرة مقررين قاعدة حداثية استبدادية عمادها دندنتكم بكل عنف وقسوة “لا إكراه إلا في العلمانية”، ثم ننتقل لنضع سطرا آخر أحمر عند ذلك التحريف بتصرف حيث أبدلت عبارة “أسلم تسلم” إلى “إما أن تسلم وإلا أنك ستموت”.
وهو تحريف ينم عن مكنون بغضه لنبي الإسلام ورسالة الإسلام التي صارت ببدع من القول إرهابا يهدد جيل التلاميذ، وكيف لا يكون الأمر كذلك وقد استبدلت كلمة “تسلم” بكذبة “ستموت”؛ مع أن المقصود أن قبول العرض له لازم يتعدى الحياة الطيبة في هذه الدنيا إلى الفوز في تلك الدار مصداقا لقوله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}.
ولعلها زحزحة وفوز لا تملك نعرتك المتعصبة؛ وطرحك العلماني الحائف؛ ونزقك الزائف؛ مفتاحهما فهلاّ سمعت يا هذا ولا أحسبك تسمع تصديقا لخبر الله في أمثالك {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} فيا له من استدراك عادل ورد حكيم من رب عليم، الذل بين يديه شرف، وتمعير النواصي بين يديه رفعة استدراك يميز في هذا السياق بين من لا نفقه تسبيحهم وبين من وقفنا على ضلالتهم وانتكاس فطرتهم بالمسموع والمسطور والمنظور؛ فرفضوا عرض الله وتجارته التي عمادها قول نبينا عطفا على قوله أسلم تسلم.. أسلم يؤتك الله أجرك مرتين.