تعتبر فترة الدولة الأموية بالأندلس من أزهى وأرقى عصور الحكم الإسلامي وأطولها، وهي الفترة التي دامت ما يقارب قرنا من الزمن ابتدأت سنة 138هـ، وقد بذل عبد الرحمن الداخل جهودا حضارية غير مسبوقة، حيث جمل مدينة قرطبة وأحاطها بالأسوار، وشيد بها المباني الضخمة العالية والحمامات والفنادق، وجامع قرطبة الذي لايزال شاهدا على تلك الحقبة إلى يومنا هذا.
وفي عهد عبد الرحمن الناصر، كانت قرطبة تضاء بالمصابيح ليلا على امتداد 16 كلم مربع، وكانت المدينة مبلطة بالكامل تضم حدائق غناء بشكل منظم وتصميم مبهر، وكانت أيام الحاكم المنصور من أعظم مدن العالم تضم 200077 منزلا و60300 قصرا و600 مسجد و700 حمام، وكانت الشوارع مرصوفة لكل منها طواران على الجانبين تضاء أثناء الليل لمسافة عشرة أميال وصفين لا ينقطعان من المباني.
وكان في المدينة شرطة تسهر على الأمن فيها، إن ما تركه المسلمون في الأندلس من إنجازات وفنون خاصة الفن المعماري ليدل على عظمة وجاه وذوق راق، فمن قصور المعتمد بن عباد في أشبيلية، إلى قصر الحمراء في غرناطة، الذي كتب عنه الشاعر الفرنسي الشهير فيكتور هوجو قصيدة طويلة مطلعها: “أيتها الحمراء.. أيتها الحمراء.. أيها القصر الذي زينتك الملائكة كما شاء الخيال وجعلتك آية الانسجام.. أيتها القلعة ذات الشرف المزخرفة بنقوش كالزهور والأغصان المائلة إلى الانهدام.. حينما تنعكس أشعة القمر الفضية على جدرك من خلال قناطرك العربية يسمع لك في الليل صوت يسحر الألباب”.
وكانت جامعة قرطبة منارة للعلم تدرس فيها العلوم الطبية والرياضية والفلكية والكيميائية، وكان في قرطبة وحدها سبعا وعشرين مدرسة للتعليم المجاني، ومن مسجد قرطبة إلى المسجد الجامع بألميرية وجامع الموحدين بإشبيلية، وما تحويه هاته القصور والجوامع من فنون النحت على الخشب وزخرفة الخزف والتحف المعدنية، وصناعة النسيج حتى أن قرطبة وحدها ضمت 13000 نساج
وفي مجال الاختراعات نشير فقط إلى أن عباس بن فرناس اخترع النظارات والساعة الدقاقة وآلة طائرة، ولا ننسى العمارة العسكرية كالأسوار والقلاع والقناطر، والحركة العلمية من علوم عقلية ونقلية بزغ فيها العشرات من العلماء نذكر منهم الإمام القرطبي وابن رشد وابن الفرضي وأبو القاسم المجريطي وعباس بن فرناس وأبو القاسم الزهراوي وابن البيطار وابن طفيل وابن حزم وغيرهم الكثير، وألفت المئات من الكتب، في علوم القرآن والحديث والفقه والأدب من شعر ونثر والفلسفة وعلم الكلام والتاريخ والجغرافية والرياضيات والكيمياء والهندسة والفلك (كان مرصد قرطبة منارا لعلم الفلك، واستطاع الزرقالي الطليطلي أن يخترع جداول فلكية تعتمد على قوانين عديدة فيما يخص كل كوكب وحركاته ووضعه وسرعته وانتقاله) والطب والصيدلة (وبقيت الموسوعة الطبية المسماة “التصريف” وهي ثلاثة كتب في الجراحة ألفها أبو القاسم الزهراوي، مرجعا أعلى في الجراحة تعتمده أوروبا عدة قرون بعد أن ترجمتها للاتينية)
وعلم النباة والزراعة (فقد نبغ مسلمو الأندلس في تنظيم وسائل الري والصرف وجلب المياه وتوزيعها ومازالت تشهد بذلك التقدم الآثار الباقية من قناطر وجداول لا تزال تستعمل لحد الآن في مناطق كثيرة كبلنسية ومرسية)، وعلوم الإدارة والمؤسسات وتنظيم الدولة والجيش والقضاء والوزارة والشرطة والحسبة
وتم تشييد المدارس والجامعات والمكتبات (كان في قصر مروان وحده بقرطبة مكتبة تضم ستمائة ألف مجلد)، والشوارع الفسيحة والأسواق التي فرضت عليها رقابة محكمة وعلى المكاييل والموازين، في وقت كانت أوربا تعيش في ظلمات الجهل، وتحرم الكنيسة الاستحمام وتبيع تذاكر الجنة والنار. حتى قال المستشرق دوزي في كتابه (تاريخ المسلمين بإسبانيا): “لقد كان كل فرد في الأندلس يعرف القراءة والكتابة بينما كان نبلاء أوربا لا يعرفون حتى التوقيع بأسمائهم”.