يحتدم النقاش في كل موجة من موجات الضرب في قدسية وثوابت الأمة الدينية، لكن ما يجب التنبيه له أن عامة الناس من المسلمين لابد لهم من نخبة عالمة تحمي أمنهم الروحي والعقدي، خاصة في ظل موجات التطاول على القرآن والسنة والعلماء.
وفي الحملة الأخيرة على صحيح البخاري وعلى الإمام البخاري رحمه الله، ازدادت القناعة بدور العلماء في صد هذه الحملات علميا وفكريا، عبر برامج ووصلات ولقاءات التوضيح والبيان لعامة المسلمين.
ففي الحملة الأخيرة على صحيح البخاري استند هؤلاء الذين يروجون لأفكار تشكك في الإمام البخاري وصحيحه، على ثلاثة أفكار أساسية، يبنون عليها فرضية ما يسمونه ظلما وادعاءا “أسطورية” الإمام البخاري وكتابه الصحيح، فإذا سقطت إحدى هذه المنطلقات، سيسقط البناء الذي أسست عليه ادعاءاتهم.
أولا، منع التدوين في عصر النبوة، لم يفرق هؤلاء بين عملية التدوين وعملية الجمع، فتدوين القرآن الكريم (مثلاً) كان في عصر النبوة، أما جمعه في مصحف واحد فكان بعد موته صلى الله عليه وسلم.. كذلك الأحاديث النبوية تم تدوينها في عصر النبوة، لكن عملية جمعها كانت في عصر عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- الذي أمر بجمع ما تم تدوينه من قِبل الصّحابة والتّابعين. فمنطلق إنكار تدوين الأحاديث النبوية في زمن النبوة، هو منطلق غير علميّ من أساسه، ولا يمكن بناء فرضية نهاية أسطورة البخاري عليه؛ والأدلة في تأكيد عملية التدوين كثيرة.
ثانيا، إنكار علم الرجال، فلولا منهج المحدثين الذي قام على علم الرجال، وعلم الجرح والتعديل، لقال من شاء ما شاء.
ثالثا، القول بأسطورية شخصية البخاري وكتابه “الجامع الصحيح” بسبب غياب المخطوط الأصلي للكتاب. ما غاب عن هؤلاء أنه يوجد في الفاتيكان ما يعادل 20 مليون مخطوط إسلامي، ناهيك عن ما سرقه نابليون من مصر، وما سرقه المستعمر من بغداد والمغرب العربي من كنوز علمية، أما ما أتلفه من مخطوطات علمية وتاريخية، وما أحرقه من تراث المسلمين، فلا يمكن إحصاءه.. ولو انطلقنا من هذه الفرضية فإننا سنقول بخرافة وأسطورية سقراط وأفلاطون وأرسطو، وغيرهم من أعلام الفكر الغربي (اليوناني)، لأن جل كتبهم تفتقر إلى المخطوط الأصلي.
وبالتالي، فالإمام البخاري -رحمه الله- ستظل مكانته العلمية شامخة، لما قدمه من تضحيات صادقة، وجهود جبارة، في سبيل جمع الأحاديث النبوية، وتحقيقها وتدقيقها وتمحيصها. إلا أن دور العلماء في صد هذه الهجمات سيظل مهما في كل عصر، لأن الهجمات على الثوابت الدينية للأمة لن يقف.
ولتيسير وجهة نظرنا لابد من بيان طرق عمل العلماء في هذا الباب، إذا عليهم أولا: تقديم رؤية صحيحة عن الإمام البخاري، من خلال حوار هادف، وعرض علمي رصين لكل الأطروحات المخالفة للحقيقة العلمية.
ثانيا: تقديم المعلومات الضرورية عن الإمام البخاري من حيث: موضوع كتابه، ومنهجه، وشرطه الصارم في الأحاديث التي خرجها، وذلك لإلقاء الضوء على المنهج العلمي الذي كان يشتغل به.
ثالثا: خلق الحدث، وإعادة توجيه البوصلة “المكانة الإمام البخاري والحجة على ذلك”.
رابعا: دعم التكوين الموازي للباحثين بالجامعات المغربية، من خلال التنبيه إلى ضرورة تطعيم الدرس الحديثي بالجامعة المغربية بالاستعراض المقرون بالتفنيد للشبهات المثارة حول السنة عموما، وصحيح البخاري خصوصا، بغية تحصيل الحصانة المعرفية.
خامسا: خلق جسور التواصل بين المشتغلين بالمعرفة.
سادسا: سد بعض الفراغ الملحوظ في الدراسات المعاصرة في باب التعريف بالإمام البخاري، وصحيحه مع بيان منهجه فيه بأسلوب سهل قريب يصل إلى أوسع دائرة من المخاطَبين.
في الختام لابد أن نوضح أن كل هذه الحملات على مقدسات ورموز الأمة هي جزء من الحرب على القيم التي نظمت الإنسان وأهلته ليعيش في أرض الله نافعا غير ضار ناشرا للخير غير مخرب. هذه استراتيجية قديمة في مضمونها لكنها جديدة في مبتغاها الثقافي والسياسي والاقتصادي.