لقد أقدم المغرب على إحداث المسالك الدولية للباكلوريا المغربية ابتداء من الموسم 2014-2015 بالتعليم الثانوي التأهيلي من خلال جذعين مشتركين: الجذع المشترك الأدبي والجذع المشترك العلمي، حيث يتم الحفاظ على تدريس نفس البرامج المعتمدة من لدن وزارة التربية الوطنية، مع دعم تعليم وتعلم اللغة الأجنبية المميزة للخيار، الفرنسية أو الأنجليزية أو الإسبانية، من خلال الرفع من حصتها الأسبوعية من جهة، واستعمالها بشكل تدريجي كلغة تدريس لبعض المجزوءات والمواد الدراسية من جهة ثانية، وهو ما سيمكن التلميذات والتلاميذ من الحصول على بكالوريا وطنية مغربية بميزة “مسلك دولي – خيار فرنسية أو إنجليزية أو إسبانية”.
ووقع المغرب وفرنسا، سنة 2014 على ثلاث اتفاقيات للتعاون تهم دعم الأقسام التحضيرية للمدارس العليا ونظام التبريز واعتماد الباكالوريا الدولية الشعبة الفرنسية وتعزيز التعاون في مجال التكوين المهني. ويهم التصريح المشترك حول دعم الأقسام التحضيرية للمدارس العليا ونظام التبريز بالمغرب، الذي وقعه وزير التربية الوطنية والتكوين المهني السيد رشيد بلمختار ووزير التربية الوطنية الفرنسي السيد فانسان بييون، تطوير الأقسام التحضيرية للمدارس العليا وسلك التحضير للتبريز عبر التقييم المستمر للمناهج المعتمدة في هذا الاطار من أجل مواكبة التطور الذي تعرفه برامج مباريات ولوج المدارس العليا الفرنسية للمهندسين والتجارة.
وبعد مرور سنوات من تنزيل هذه الاختيارات اللغوية، يعيش تلاميذ وأساتذة المواد العلمية بالثانويات الإعدادية والتأهيلية مخاضا عسيرا، بعد قرار الوزارة الوصية، القاضي بالعودة التدريجية إلى تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية. بسبب عدم تمكن التلاميذ من التواصل باللغة الفرنسية، وتواجد مجموعة من مدرسي المواد العلمية (المعربين). ورغم أن (قرار) الوزارة الوصية، لازال اختياريا في بدايته. حيث يسمح للتلاميذ حسب قدراتهم التواصلية. بالتدريس وفق الخيار الفرنسي الجديد (المسار الدولي)، أو الخيار العربي القديم. إلا هناك مجموعة من الثانويات وحتى بعض المديريات الإقليمية تجاوزت ما أوصت به وزارة التعليم، وفرضت المسار الدولي على كل التلاميذ. مما تسبب في اضطرابات مختلفة لدى التلاميذ وإصابة بعضهم بأزمات نفسية، كما رفض البعض متابعة دراستهم.
ورغم مبادرات الوزارة الوصية من أجل اختبار وتكوين الأساتذة وإعدادهم لتدريس المواد العلمية بالفرنسية. فإن أكبر إشكالية باتت مطروحة على المدرسين. هي كيفية التواصل من أجل إيصال المفاهيم العلمية ومناقشتها وضمان استيعاب الدروس العلمية. علما أن معظم التلاميذ لا يدركون حتى أبجديات الفرنسية. مما يفرض على الأساتذة تقديم الشروحات باللغة العربية أو اللهجة العامية الخاصة بكل منطقة.
أزمة اللغة الفرنسية التي أريد لها أن تكون لغة العلم والإدارة والاستثمار ببلادنا. تعود للواجهة مع كل موسم جامعي. يأس وإحباط يخيم على الحاصلين على شهادات البكالوريا الوطنية بكل أصنافها المعربة، بسبب تلقيهم برامج تعليمية باللغة العربية، وعدم قدرتهم على متابعة وتحصيل البرامج التعليمية والتكوينية الجامعية باللغات الأجنبية، وفي مقدمتها الفرنسية المفروضة على الإدارة المغربية منذ فجر الاستقلال. بل إنهم يجدون صعوبات في اجتياز المباريات الكتابية والشفهية، لولوج بعض المعاهد والكليات.. يضاف إليها عجزهم الثقافي وعدم قدرتهم على مجابهة الحياة بكل متطلباتها.
كيف لطالب أن يجتاز مباراة جميع موادها باللغة الفرنسية، وقد تعلم دروس تلك المواد باللغة العربية؟
كيف له أن يتابع التحصيل الجامعي لمواد علمية وأدبية بالفرنسية لم يختبره أحد في مجال تخصصه العلمي بقدر ما تم اختباره في مدى استيعابه وقدرته على التواصل بلغات لم تكن من قبل أداة لتحصيله العلمي والثقافي؟
بحرقة ومرارة يلقي الطلبة التعساء بهذه التساؤلات التي ضلت وستضل حبيسة صدورهم الضيقة، تخالجهم كلما سئلوا عن مسار دراساتهم الجامعية ومدى استعداداتهم وتجاوبهم مع برامجها الدراسية الجارية…
فرحة الفقير أو القروي الحاصل على شهادة الباكالوريا بميزة حسن أو حسن جدا، والذي عاش أسبوعا من الاحتفالات وسط أقاربه وجيرانه بحومته أو قريته الصغيرة لم تدم طويل. إذ كان عليه مواجهة إعصار المباريات والانتقاءات، بما لديه من خزان معرفي تنقصه أهم وأبرز أداة للتواصل وهي اللغات (الفرنسية، الإنجليزية…).
وكذا التعلم والتكوين بها.. فاللغة الأم التي مكنته من معارف علمية وثقافية، أراد لها أصحابها أن تنتهي صلاحيتها بمجرد توصله بـ(دبلوم البكالوريا)، وعليه التسلح بلغات تواصل أخرى للدخول في المنافسة من أجل ولوج المعاهد والكليات، والتمكن من ولوج مدرجاتها بدون حرج أو نقص. في الوقت الذي تمكنت فيه فئات طلابية أخرى دون مستواهم العلمي من ولوج تلك المعاهد، ومتابعة دراساتها وتكويناتها، معتمدة على لغتي التواصل المطلوبتين.
لكن يبقى أولياء أمور التلاميذ يستفسرون حول سبب عدم تمكن أبنائهم وبناتهم من استيعاب مواد اللغات الفرنسية والانجليزية والإسبانية، علما أنهم يقضون السنوات الطوال يدرسون تلك اللغات.
أسئلة كثيرة حيرت الآباء الذين يرون كيف أن مطرودين من الدراسة ومعهم شيوخ وأميين حظوا بالإقامة مؤقتة ببلدان أوربية وأمريكية. عادوا وألسنتهم تنسج الكلمات والجمل بلغات تلك البلدان، وأبنائهم وبناتهم بالمغرب درسوا عدة سنوات تلك اللغات وعجزوا عن تعلمها؟؟..
أمام هذه المعضلة ارتفعت بعض الأصوات مجدداً تطالب بإلغاء التعريب بصفة نهائية. وهي الأصوات التي كانت تنتظرها تلك الجهات التي أضرت باللغة العربية وسوقتها كلغة لا تصلح للتواصل العلمي والتكنولوجي.
إذن، المغرب يسير في اتجاه تعميم المسالك الدولية ولكن المجتمع بكل شرائحه يعيش تبعات هذه الاختيارات، فلا لغة فرنسية تمكن التلاميذ المغاربة من الولوج لسوق الشغل ولا لغة عربية تمكنهم من إبداع ذات مغربية متألقة في سماء البحث والابتكار. إلى أي مدى يمكن أن يسير واقعنا اللغوي في المغرب إلى الهاوية؟