هكذا تحدث التاريخ عن الطغاة…. التاريخ وأفول نجم الطغاة!!! مولاي المصطفى البرجاوي باحث في العلوم الاجتماعية والتواصل -كلية علوم التربية- الرابط

إشكالية الطغاة ليست وليدة اللحظة، كما قد يتخيل البعض من خلال تجربة تونس ومصر.. لكن جذورها موغلة في القدم، ولعل المثال البارز في هذا الباب، فرعون الذي اتبع نظاما “تيوقراطيا”، أي أنه حاكم يستمد نظامه السياسي من قدرات لاهوتية باعتباره إلها أو ابن الآلهة أو”مبعوث العناية الإلهية”.. كما استمر الأمر كذلك في أوربا الغربية إبان النظام الفيودالي بل وحتى العصر الذي يسمونه عصر الأنوار مع فولتير وجون جاك روسو الذي سن ما يسمى بـ”العقد الاجتماعي” الذي يفسر أن العلاقة بين السلطة والشعب هي علاقة تعاقدية تتم بموجب واجبات وحقوق لكلا الطرفين بناءً على عقد يلتزم فيه الجانبين، ومعايير سياسية واجتماعية تتفق مع رغبة الشعب. لكن -للأسف- هذه المعايير تعتمد قواعد علمانية وديمقراطية بمفهومها الغربي؛ إذ إن الديمقراطية على حد تعبير “جورج كوك”GEORGE COQ: “لا تفضي إلى ظهور إنسان متميز، بل إنسان مخاتل ومخادع وإلى استبداد من نوع خاص”…

لكن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم سن عقدا إيمانيا ربانيا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه مبني على القاعدة التالية: “كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته”، وهو المبدأ الذي سار على دربه الخلفاء الراشدون والتزم به السلف الصالح…لكن ما إن حاد حكامها وسلاطينها على هذا النهج حتى شطت وتعسفت وطغت…

في معنى الطاغية والطغيان
يحمل هذا المصطلح معان متعددة -حسب سياقات تاريخية معينة وبيئة معينة-من قبيل الاستبداد، الديكتاتورية، التوليتارية، الفاشية، النازية، الارستقراطية والظلم…
لكن الطغيان عموما هو وضع الشيء في غير محله باتفاق أئمة اللغة؛ وهو أيضًا عبارة عن التعدي عن الحق إلى الباطل وفيه نوع من الجور؛ إذ هو انحراف عن العدل.. كما عرّف الراغب الأصفهاني في كتابه “المفردات في غريب القرآن” “الطغيان” بأنه: “تجاوز الحد في العصيان، ويقال: “طغي الماء” إذا جاوز الحد المعقول المعروف. وقوله تعالى: (فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) (الحاقة:69) .
أما الشوكاني رحمه الله فقال: الطاغية الصيحة التي جاوزت الحد، وقيل بطغيانهم وكفرهم، وأصل الطغيان مجاوزة الحد .
ويذهب الأستاذ “بدر خضر” في كتابه “القهر الإنساني في هندسة الطاغية”، إلى أن الطاغية من أسرف في المعاصي والقهر وقد يتخذ من القوانين –خاصة الوضعية- ما يتيح له ارتكاب الفظائع…
أما الدكتور “أحمد القديدي” في مقالاته الرائقة “الطغاة والطغيان في نص القرآن” المنشورة في نشرة تونس نيوز 05/01/2004 أن الطاغوت عبارة ليس لها على ما أعلم رديف أو نظير أو ترجمة في أية لغة من لغات العالم، فهي إشارة من إشارات الإعجاز القرآني الفريد، حملها الله سبحانه كل معاني الطغيان (وهو اسم المصدر) إلى جانب مفهوم المبالغة والتضخيم، لأن الطاغوت هو الطغيان المعظم، مع معنى الشمول أي أن الطاغوت هو الطغيان إذا ما استفحل للتعميم على كل سلوكيات الناس وطمس حرياتهم وحبس أنفاسهم وعد حركاتهم ومراقبة سكناتهم (وضرب القرآن مثلا عن ذلك بفرعون حين قال لقومه: (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى).
كما أن عبارة الطاغوت تميزت بكونها مفردا وجمعا في نفس الوقت، وأنها تستعمل لوصف طاغية أو لوصف طغاة عديدين، وكذلك لنعت الصفة (الطغيان) ونعت الفعل (طغى يطغى)، إلى جانب تحميل المولى جل وعلا لهذه العبارة معاني الاستبداد المؤدي حتما إلى الضلال ثم الكفر، واتخاذها أيضا رمزا مضادا للإيمان، مناقضا للإسلام.

أشهر الطغاة عبر التاريخ…
سجل التاريخ نماذج من الطغاة سعت إلى فرض هيمنتها وجبروتها على رعيتها بشتى أنواع التنكيل والتقتيل والتجويع، فكان عاقبتها الخسران المبين.. وخير ما نبدأ به هو النموذج الوارد في كتاب الله باعتباره المصدر الأول في التشريع الإسلامي.. يقول تعالى: (وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ)”(العنكبوت:39)..
ثم لا يمر عصر من العصور الموالية إلا ويطبع التاريخ بخراب الطغاة وظلمهم ولكن تكون نهايتهم مخزية ومهينة للعبرة والعظة.. هيهات.. هيهات أين المتعظون من طغاة هذا العصر!
في عهد الإغريق؛ كان الطغيان -حسب تعريف أرسطو قديما- هو صورة للحكم الفردي في ممارسة السلطة دون رقيب ولا حسيب، حتى في أثينا التي قالوا عنها أنها اتبعت نظاما ديمقراطيا.. أما أفلاطون يشبّه الطاغية بالذئب “لأنه يذوق بلسانه دم أهله بقتلهم وتشريدهم..”، بينما شبه القديس أوغسطين التاريخ الروماني بتاريخ عصابة لصوص والطغاة المتجبرين…
لكن الطغيان الأكثر فتكا بالعالم الغربي ما مارسته الكنيسة الكاثوليكية في شخص الاكليروس (رجال الدين النصارى) من استعباد واستغلال بأفرادها؛ من خلال ترويج لخزعبلات؛ مستغلين سذاجة وجهل أهلها التام بأمور دينهم من خلال احتكار الكنيسة للكتب الدينية المحرفة، ومن أبرز تجليات ذلك ما يسمى بـ”صكوك الغفران”، كما أوجب القديس “جريجوري” طاعة الحكم المدني ولو كان طاغية لأن كل حكم له علاقة بالله …
لكن في المقابل، بإطلالة سريعة على التاريخ الإسلامي في أزهى مراحله -وهي المرحلة التي بدأت فيه أوربا تغرق في ظلام حالك على المستوى الديني والمعرفي..- يعطينا مثلا أبو بكر الصديق رضي الله عنه أروع النماذج في العدل، ونفي صفة القداسة عن نفسه، بل يعتبر نفسه بشرا عرضة للخطأ، فلم ينصب نفسه رضي الله عنه ملكا ولا نبيا مرسلا أو يلصق بنفسه صفة العصمة، إذ يقول: “لقد ولّيت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم”…
والباحث والمدقق في تاريخ الصديق رضي الله عنه يرى أن تصرّفه كان غاية في الحرص على الالتزام بكتاب الله عز وجل، والتأسّي برسول الله صلى الله عليه وسلم في الرعية، والتنزّه عن كل مطامع الدنيا وزينتها، ثقة منه بأن من ساس أمور الناس فأفاد لنفسه منها كان ظالماً لنفسه، وللناس جميعًا.. ونفس الشيء ينطبق على باقي الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم ومن سار على دربهم من السلف الصالح…
لكن مع انتشار العقائد الباطنية الفاسدة التي تم جلبها من التيارات الفلسفية القديمة ظهر طغاة من أمثال المعز لدين الله الفاطمي الذي اختزل مفهوم الحكم بصراحة غير معهودة لما قال: “هذا حسبي [مشيرا إلى المال] وهذا نسبي [مشيرا إلى سيفه]”؛ وفي العصر الحالي ابتلي العالم الإسلامي بخدام العلمانية الغربية المتوحشة من أمثال الطاغية “زين العابدين بن علي” الذي قضى على كل ما يمت للإسلام بصلة بدعوى محاربة الإرهاب خدمة للكيان الصهيو-أمريكي وللأجندة الغربية..
عودا إلى التاريخ الحديث، وبتصفحنا للكتابات التاريخية الغربية، نجده مرسوما بثلة من القادة الطغاة، الذين أبادوا ودمروا وعاثوا في الأرض فسادا، ولعل من أبرزهم:
أدولف هتلر(1889-1945): ولد في النمسا، قاد شعبه الألماني إلى الهاوية في الحرب العالمية الثانية، عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى انضم هتلر إلى الجيش الألماني كعريف في الخنادق، وقد هزه استسلام ألمانيا في عام 1918م، إلى الانخراط في العمل السياسي وتزعم حزبا متطرفا (حزب العمال الألماني الاشتراكي القومي)، ويسمى اختصارا الحزب النازي، قاد محاولته الأولى للاستيلاء على السلطة فسجن، لكن ذلك كان فرصة لتأليف كتابه المعنون بـ(كفاحي)؛ الذي تضمن فلسفته السياسية؛ إذ كان يؤمن بتفوق العنصر الآري الألماني على باقي الأجناس البشرية…
وبعد تهاوي الاقتصاد الألماني في عام 1929 -إبان الأزمة الاقتصادية العالمية، التي انطلقت من انهيار أسهم بورصة وول ستريت- صوت أغلبية الشعب الألماني لصالح هتلر؛ وفي سنة 1932م أصبح الحزب النازي الأكثر تمثيلية في (البرلمان) ثم انتخب مستشارا، إذ عمل على سحق معارضيه ليعين بعد ذلك نفسه قائدا (الفوهرر) على ألمانيا…
وفي عام 1939م، أطلق الشرارة للحرب العالمية الثانية بضمه النمسا والسويد وبولندا التي كانت السبب المباشر في اندلاع الحرب.. لكن انتصاره كان قصير العمر؛ ففي 1945م انتحر هتلر بعد انهزامه أمام الروس في معركة ستالينغراد…

جوزيف ستالين..الطاغية الفولاذي: اسمه الكامل “جوزيف فيساريونوفيتش ستالين”(1879-1953)، بوصول ستالين إلى السلطة المطلقة في 1930، عمل على إبادة أعضاء اللجنة المركزية البلشفية وأعقبها بإبادة كل من يعتنق فكر مغاير لفكر ستالين أو من يشك ستالين بمعارضته. تفاوتت الأحكام الصادرة لمعارضي فكر ستالين فتارة ينفي معارضيه إلى معسكرات الأعمال الشاقة، وتارة يزجّ بمعارضيه إلى السجون، وآخرين يتم إعدامهم بعد إجراء محاكمات هزلية، بل ومن أهم استرتيجيته “الطغيانية” تطبيق ما يسمى بالاغتيالات السياسية. من ثم قتل الآلاف من المواطنين السوفييت وزج آلاف آخرين في السجون لمجرد الشك في معارضته لمبادئه الأيديولوجية!
…في الأول من مارس 1953، وخلال مأدبة عشاء بحضور وزير الداخلية السوفييتي “بيريا” و”خوروشوف” وآخرون، تدهورت حالة ستالين الصحية ومات بعدها بأربعة أيام. تجدر الإشارة، إلى أن المذكرات السياسية لـ “مولوتوف” والتي نُشرت في عام 1993 تقول أن الوزير “بيريا” تفاخر لـ”مولوتوف” بأنّه عمد إلى دسّ السم لستالين بهدف قتله.

بنيتو موسوليني رمز الفاشية: يسمى أيضا بالدوتشي، حكم إيطاليا من 1922 إلى 1943 فرّ إلى سويسرا بعد الهزيمة الألمانية وتعرض له أنصاره وقتلوه رميا بالرصاص في 28 أبريل 1945.
يقول عنه المؤرخ فيشر في كتابه تاريخ أوربا الحديث: “استقبلت دول أوربا الغربية النزعات طغيان الديكتاتور الإيطالي وأساليب قمعه واضطهاده، بأحاسيس العداء والارتياع.. فقد أنجبت إيطاليا رجلا مستبدا من طراز قيصر، تحيطه هالة الخطيب الذرب، وتحليه مكارم رجل من رجال الشعب.. ولكنه حاكم مستبد، يكدح ويجد لكي يجعل أمته قوية متحدة.. فإذا كان الثمن الذي دفعه الإيطاليون للخيرات والمنافع التي جاءتهم على أيدي الدوتشي هو فقدانهم الحرية..”.

فرانسيسكو فرانكو: (1892-1975م): رئيس الدولة الأسبانية وقد قلد فرانكو هتلر وموسوليني في أنه جعل نفسه زعيما وأبا لأسبانيا وسمى نفسه “الكوديللو” أي زعيم الأمة كما أسمى هتلر نفسه “الفوهرر” وموسوليني نفسه باسم “الدوتشي” وهي كلمه إيطاليه لا تختلف في معناها عن كلمة “الفوهرر” أو “الكوديللو” الأسبانية.
كان من المفترض أن ينهار نظام “فرانكو” مع انهيار هتلر وموسوليني بعد الحرب العالمية الثانية ولكن “فرانكو” كان شديد الحذر؛ فأعلن حياد أسبانيا أثناء الحرب، ..ومما سجله التاريخ ما ارتكبه في حق أهل الريف المغاربة من استعمال الغازات المحظورة دوليا..
وفي 20 نوفمبر 1975 توفي فرانكو عن 83 عاما من العمر بعد نزاع دام 35 يوما إثر مشكلات في القلب..
..ومازال الطغاة يطفون على سطح العالم المعاصر، من أمثال جورج بوش، الذي أحدث محاكم التفتيش الجديدة من خلال سجن غوانتانمو، وشارون الذي يعذب في الدنيا قبل الآخرة لما مارسه في حق الفلسطينيين الأبرياء..

عاقبة الطغاة-الظلمة المتجبرين في الأرض
..ولنا في كتاب الله العبرة والعظة، فهو الموجه والمخبر عن مآل الظالم والطاغي في الأرض؛ قال تعالى: “وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً” (الكهف:59)، وقوله الله عز وجل: “وَلاَ تَحْسَبَن اللّهَ غَافِلاً عَما يَعْمَلُ الظالِمُونَ إِنمَا يُؤَخرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رؤوسهم لاَ يَرْتَد إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأفْئِدَتُهُمْ هَوَاء” (إبراهيم:42-43)، وقوله سبحانه: (أيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أن يُتْرَكَ سُدًى) (القيامة: 36)، وقوله تعالى: “سَنَسْتَدْرِجُهُم منْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ، وأمْلي لَهُمْ إِن كَيْدِي مَتِينٌ” (القلم:44) وقال سبحانه: “أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ” (الشورى:45).
والظلم من المعاصي التي تُعَجَّل عقوبتها في الدنيا، فهو متعدٍ للغير وكيف تقوم للظالم قائمة إذا ارتفعت أكف الضراعة من المظلوم، فقال الله عزَّ وجلَّ: «وعزَّتي وجلالي لأنصُرنَّكِ ولو بعد حين».
قال أبو العتاهية:
أمــا والله إن الظلـم لـؤم *** ومازال المسيئ هو الظلوم
إلى ديـان يـوم الدين نمضي *** وعند الله تجتمع الخصـوم
ستعلم في الحساب إذا التقينا *** غـداً عند الإله من الملـوم
وأكثر من هذا حذر الله سبحانه أشد التحذير من الظلم لخطورته الشديدة يقول عز من قائل: “وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ” (الشعراء:227).
إذ أن ندم الظالم وتحسره بعد فوات الأوان لا ينفع، قال تعالى: “وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً” (الفرقان:27).
والله نسأله أن يحفظنا من الظلم والظالمين.. ويحشرنا مع أحباب سيد المرسلين محمد عليه أفضل الصلاة والسلام والحمد لله رب العالين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *