هُزمت أمريكا، وانتصرت طالبان والشعب في أفغانستان، وعادت حركة طالبان لتحكم أفغانستان، بعد تجارب قاسية مريرة عرفتها في حكمها الأول، والذي انتهى بحربٍ أمريكية دولية أطاحت بها. واحتُلت أفغانستان بالحديد والنار، وبدعاية شيطنت طالبان بكل اتجاه، وعملت على “تحديث” تغريبي لأفغانستان من أجل إرساء تغيير اجتماعي مادي لا يُبقي لطالبان أرضاً تقف عليها.
لكن بعد عشرين عاماً من الاحتلال الأمريكي، وحكم أفغانستان من قِبَل نخب متحالفة مع أمريكا سياسياً واقتصادياً وحضارياً، انسحب الاحتلال الأمريكي مهزوماً مدحوراً أمام المقاومة. ووجدت تلك النخب، وتحتها جيش وقوات أمنية يزيدان على 400 ألف، نفسها بلا حول أو طول، في مواجهة هجوم طالبان الذي راح يقتحم الولايات الواحدة بعد الأخرى، وأكثرها استسلاماً أو صلحاً، لتصبح العاصمة كابول بين فكيّ كماشة. فلم يكن أمام رئيس الدولة أشرف غني إلاّ الفرار إلى طاجكستان، ولتدخل طالبان كابول بأسهل مما دخلتها أول مرة.
وقد سادت أجواء من الفزع في صفوف من خدموا مع النظام العميل المندثر، وأُجج هذا الفزع ليصل إلى أقصاه، بما رسموه من صورة لطالبان في إعلامهم. وقد أصموا آذانهم عن سماع ما أعلنته طالبان من طمأنة وأمان للجميع. وبدأ التباكي الغربي على وضع المرأة الأفغانية، من دون أن يُلتفت إلى تصريحات مخالفة لما ذهبوا إليه.
ثمة ثلاثة موضوعات تحتاج إلى وقفة وتفسير وتوقع، إزاء ما حدث من تغيّر مدهش، بانتصار طالبان وعودتها المذهليْن، أولاً، وثانياً هل ستكرر طالبان ذاتها، كما حكمت أفغانستان في تجربتها السابقة؟ وثالثاً كيف ستكون استراتيجيتها الدولية وعلاقاتها بجيرانها وبالقاعدة والحركات الإسلامية عموماً؟
لقد دلت تجربة طالبان على أنها حركة عضوية منبثقة من الشعب الأفغاني، وليست حركة نخبة شبيهة بنمط الجماعات والتنظيمات الإسلامية أو الثورية. فطبيعة علاقتها بالشعب من النشأة حتى اليوم هي التي تفسّر كيف واجهت الحرب، وسيطرة الاحتلال، وكيف صمدت أمام العزلة الدولية والشيطنة غير المتناهية، وكيف فرضت على أمريكا انسحاباً مذلاً وهزيمة عسكرية. الجواب يكمن في علاقتها بالشعب، فالشعب هو الأقوى، بعد قوة الله.
انتصار طالبان والشعب جاء بعد عشرين عاماً من المقاومة والتضحيات، وأمريكا خلال العشرين عاماً تراجعت بسيطرتها العالمية سياسياً وعسكرياً، وأصبحت ناضجة للهزيمة. فالجندي الأمريكي الذي اكتسح طالبان وأفغانستان 2001 ليس الجندي الأمريكي الراهن، لا نفسياً، ولا معنوياً، ولا نظرة للحياة. وأصبحت القيادة الأمريكية الآن أقل قدرة على القيادة وأكثر ارتباكاً، فرؤية البُعد الأخير يجب ألاّ يقلل من أهمية البُعد الأول.
أما من ناحية أخرى فلا يجب أن تُقوّم طالبان كما تُقوّم حركة إسلامية نشأت تحت نخبة مختارة تشكلت لتعلم وتثقف وتنشر الوعي والإيمان في الشعب، وإنما حركة شعبية مقاوِمة أقرب ما تكون لحالة شعبها، كما هو.
يجب ألاّ يُفهم من هذه الملحوظة تمييزاً منحازاً في ما بين أشكال نشأة الحركات الإسلامية، وإنما هي إشارة إلى خاصية نشأة حركة طالبان وعلاقتها بالشعب.
هذه الخصوصية التي اتسّمت بها علاقة طالبان بالشعب تسمح بتوقع انفتاح عفوي للتعلم من التجربة والممارسة، ومن محصلة الأحداث، كما هو شأن الناس عموماً وعلاقتهم بوقائع الحياة. ولهذا لا بد من أن تكون طالبان تعلمت كثيراً في معركة أمريكا الإمبريالية والغرب المعادي، وتعلمت من علاقاتها بالدول الإسلامية والقوى الإسلامية حين تكون سلبية. ومن ثم، تعلمت كيف تدير السياسة داخلياً وخارجياً في المرحلة القادمة، لذا من غير المتوقع أن تكرر ذاتها كأن شيئاً لم يكن.
طبعاً يجب ألاّ نتوقع تغييراً نوعياً، كما يحدث مع النخب حين يقررون التغيير. فالنموذج الأقرب هو نموذج الشعب وهو يغير، لا سيما إذا تعلق الأمر بالمسلك والتقاليد والقِيَم والنظرة إلى الحياة. فقد دلت التجربة على أن كل ما أُخِذ على طالبان في علاقتها بتعليم الفتيات أو الشغل، ليس ما أخذه الشعب عليها، وإلاّ لماذا استمرت أغلبية غالبة من الشعب متمسكة بها، وواثقة منها، ومقاومة إلى جانبها، حتى أوصلتها إلى ما وصلته الآن. فطالبان الآن أمام مستقبل وليس أمام ماضٍ، فهي إلى صعود وليس إلى أفول، بدليل بياناتها التي أطلقتها وهي تدخل مقر الرئاسة. وقد دلت على ذكاء وتعلّم من التجربة، وعلى نظر إلى المستقبل وليس إلى الماضي.
إن أهمية هذه البيانات تنبع من كونها موجهة إلى الداخل، المجتمع في كابول. فهي بداية إيجابية لنهج قد يصبح نهج العلاقة بالداخل، حيث سيترك فسحة للتعدّد والاختلاف والتشارك، بما يناسب شعب أفغانستان. وقد أبدت تلك البيانات أيضاً انفتاحاً على طالبي المغادرة، إذ طمأنتهم على المغادرة لمن اختارها، وبما يتضمن إمكاناً للبقاء لمن يختاره.
من هنا تستطيع طالبان أن تقدم نموذجاً لنظام إسلامي خاص ببلد اسمه أفغانستان، وهو حقٌ لها ويتسّع صدر الإسلام الفسيح له، وعسى ألاّ يضيق صدر أهل “الحداثة”.
تبقى الموضوعة الثالثة المتعلقة باستراتيجيتها الدولية وعلاقاتها بجيرانها (الجيوسياسية)، وبعلاقاتها بالقاعدة والحركات الإسلامية عموماً.
واقع العالم الإسلامي اليوم منقسم إلى دول قومية (57 دولة)، مثلاً تركيا، إيران، إندونيسيا، باكستان، أفغانستان.. عدا الدول العربية القائمة على أساس قُطري (استخدام دولة قومية لا تعني أنها تتبنى العقيدة القومية). وقد فُرض على كل دولة أن تعمل ضمن إطار نظام عالمي وقوانين ومواثيق دولية، وموازين قوى تحت سيطرة دول كبرى إمبريالية تعطي لنفسها حق احتكار القوة واستخدامها في السياسة الدولية.
هذا الواقع فرض على كل دولة تبني استراتيجية دولية وإقليمية وداخلية، وهو ما يوجب أن تفعله طالبان، وذلك على ضوء ما تعلمته من دروس تجربتها الأولى في الحكم، وتجربتها في حرب التحرير ضد الاحتلال الأمريكي، ومن ثم كيفية فهمها للعالم. وذلك ابتداءً من العلاقة بعدوها رقم 1، أمريكا وحلفائها الأوروبيين الذين احتلوا أفغانستان وعاثوا فيها فساداً، وما زالوا معادين لها، ثم يأتي التزامها بالقوانين والمواثيق الدولية من حيث كونها عضواً مشاركاً في هيئة الأمم والهيئات الأممية الأخرى.
على أن الأهم هي استراتيجية إعادة بناء علاقاتها الإقليمية بالدول المجاورة، وفي المقدمة باكستان وإيران والدول الإسلامية، حيث يجب أن تقوم علاقات أخوية، نديّة، تؤسّس لسوق مشتركة وتعاون وتضامن وثيقين.
وتبقى الاستراتيجية الداخلية التي يجب أن تبنى على الوحدة والشراكة بين مختلف مكوّنات الشعب الأفغاني من جهة، أما من الجهة الأخرى فتتعلق بعلاقتها بالقاعدة والحركات الإسلامية من خلال وعي جديد يحول دون تعريض أفغانستان إلى ما تعرضت له، وأدى إلى شن الحرب واحتلالها، بالرغم من أنها حرب ظالمة وغير شرعية.