دعاة العامية كما وصفهم الأستاذ عبد كنون رحمه الله

“إذا كانت اللغة هي خزانة الفكر الإنساني، فإن خزائن العربية قد ادخرت من نفيس البيان الصحيح عن الفكر الإنساني، وعن النفوس الإنسانية، ما يعجز سائر اللغات، لأنها صفيت منذ الجاهلية الأولى المعرفة في القدم، من نفوس مختارة بريئة من الخسائس المزرية، ومن العلل الغالبة، حتى إذا جاء إسماعيل نبي الله ابن إبراهيم خليل الرحمن أخذها وزادها نصاعة وبراعة وكرما وأسلمها إلى أبنائه من العرب، وهم على الحنيفية السمحة دين أبيهم إبراهيم، فظلت تتحدر على ألسنتهم مختارة مصفاة مبرأة، حتى أظل زمان نبي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم فأنزل الله بها كتابه بلسان عربي مبين، بلا رمز مبني على الخرافات والأوهام، ولا ادّعاء لما لم يكن، ولا نسبة كذب إلى الله؛ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا”. محمود شاكر أباطيل وأسمار ص:436.

قال مصطفى صادق الرافعي رحمه الله: “ما ذلّت لغة شعبٍ إلاّ ذلّ، ولا انحطّت إلاّ كان أمره في ذهابٍ وإدبارٍ، ومن هذا يفرض الأجنبيّ المستعمر لغته فرضاً على الأمّة المستعمَرة، ويركبهم بها، ويُشعرهم عظمته فيها، ويستلحِقهم من ناحيتها، فيحكم عليهم أحكاماً ثلاثةً في عملٍ واحدٍ :أمّا الأول: فحَبْس لغتهم في لغته سجناً مؤبّداً، وأمّا الثاني: فالحكم على ماضيهم بالقتل محواً ونسياناً، وأمّا الثالث: فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها، فأمرُهم من بعدها لأمره تَبَعٌ”. وحي القلم 3/33-34

بعثت من قبرها اليوم الدعوة القديمة الجديدة إلى إقصاء اللغة العربية وإبعادها عن لغة التواصل والخطاب والكتابة؛ باعتبارها لغة ميتة لا يمكن الاعتماد عليها بحال؛ فهي ليست لغة اقتصاد أو فكر أو سياسية! -كذا-.

وقد أصبحت اليوم بفعل عامل الزمن لغة متجاوزة؛ وهي لغة قريش لا لغة المغاربة؛ ولا تمثل سوى مظهر من مظاهر الغزو المشرقي للدول المغاربية.
تلك كانت جملة من الأراجيف التي تروجها الصحافة العلمانية ويرفع شعارها بعض المتفرنسين الجهال بدينهم وهويتهم وانتمائهم.
فليس غريبا أن تصدر مثل هذه الأقوال عن دعاة العلمانية الذين أعلنوا موقفهم مبكرا تجاه القرآن الكريم والسنة والمطهرة واللغة العربية والإسلام عموما؛ لكن الغريب فعلا هو السكوت غير المسوغ للمؤسسة الدينية التي أخذت على عاتقها الذود عن حياض الدين الحنيف وحمايته من كل من تجرأ على المساس به؛ تجاهلها غير المفهوم لدعاة فصل المغاربة عن كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
فليس خاف على أحد المخطط الذي رسمته دول الاحتلال قبل دخولها أراضي المسلمين وبعده؛ بالطعن في اللغة العربية باعتبارها لغة القرآن ومحاولة إحلال العامية محلها؛ وإبدال الخط العربي بالخط اللاتيني في الكتابة؛ وهي الدعوة نفسها التي يرفعها المستغربون اليوم في العديد من الدول العربية والإسلامية؛ ولا يخفى ما في هذا الأمر من الخطورة والطعن الصريح في مراجع المسلمين؛ إذ لا تقل خطورة الطعن في العربية عن خطورة الطعن في القرآن والسنة.
وقد وقف علماء المغرب بالأمس في وجه هذه الدعوة الباطلة وبينوا زيفها وكشفوا عوارها؛ وننقل هنا كلاما نفيسا للشيخ عبد كنون رحمه الله إذ يقول:
“أكاد أقول أن هؤلاء الذين ينادون بالمعاصرة، لا يعيشون عصرهم فإنا نرى بلدا من أكثر البلاد تقدما علميا وحضاريا، وممن يتهافت المفتونون بالمعاصرة على التلقي منه والتقليد له، وهو فرنسا، بالرغم من تطوره العظيم يتفانى في الدفاع عن أصالته والمحافظة على تراثه، وقد شعر بمزاحمة اللغة الإنجليزية للغته الوطنية في الخارج، وهجومها عليها في الداخل باصطناع أبنائه لبعض المفردات والمصطلحات والعبارات التي يستعملها الإنجليز فهو ما يفتأ يقاوم هذا الهجوم ويحرص على تنقية لغته من الألفاظ الإنجليزية الدخيلة، وفي المدة الأخيرة احتفلت الأكاديمية الفرنسية بتقديم ألفي كلمة فرنسية أصيلة لتحل محل تلك الكلمات الأجنبية في لغة الحديث والصحافة والعلوم، ونوهت الأوساط الفكرية والأدبية بهذه المبادرة التي تدل على الاعتزاز باللغة الوطنية وإيقاف موجة الاستهتار بالمقومات الذاتية للأمة عند حدها.
ومعلوم أن اللغة هي مظهر أصالة كل شعب، والوعاء الذي يستوعب تراثه ومعطياته الفكرية، فالذين لا يبالون بها، ويقدمون عليها لغة أجنبية إنما يعملون على الانسلاخ من قوميتهم والذوبان في غيرهم، وهذا ليس من المعاصرة في شيء ولذلك رفضه الفرنسيون ولم نسمع أحداً منهم ارتضاه أو دعا إليه كما وقع عندنا منذ فجر النهضة الحديثة، وصدر من أقطاب في السياسة والعلم والأدب، فمنهم من دعا إلى كتابة العربية بالحرف الإفرنجي ومنهم من روج للغة العامية بكتابة بعض المسرحيات وإصدار بعض الصحف بها، وذاك ما جعل حافظ إبراهيم يقول في تائيته الشهيرة:
أيهجوني قومي عفا الله عنهم إلى لغة لم تتصل برواة
ومع أن دعوات هؤلاء المتمردين على اللغة العربية، فضت من أول يوم إلا صداها لم يزل يتردد بين الشباب المتعلم باللغات الأجنبية، والمثقف ثقافة حديثة لم تتطعم بشيء من التراث العربي الأصيل، فتولد من ذلك جيل ثالث لغته عربية وفكره أجنبي، وهو يعتقد أنه يمد الجسور بين الاستعراب والاستغراب، ولكن أعماله كثيرا ما تصب في قناة الاستغراب ومن تم فهو ما يزال ينسج على منوال التغريب متأثرا بالتراث الأجنبي حتى في أخطائه المتعمدة أو العفوية في تقويم تراثنا العربي والإسلامي، مما حذا به إلى هجر التراث، وعدم الاستفادة منه وانعكاس ذلك على تفكيره ولغته التي ضعفت واعتادها اللحن وسادها الغموض ضرورة عدم إتقانه لقواعدها، وأما فنون بلاغتها فقلما يلم بها أحدهم بل إن منهم من صار يبشر بفن القول في اللغات الأخرى حتى سقط في هوة الاغتراب عن أجواء التراث العربي، فصار لا يفهم عنه ما يقول، وتكون المفردات العربية التي تقع في كلامه، مثلها مثل التي تقع في الفارسية أو التركية، فانضاف إلى الاستغراب والاغتراب وصف ثالث من المادة نفسها وهو الغرابة، وليست هي الغرابة التي يتحدث عنها البلاغيون، ويمثلون لها بقول الشاعر:
ومقلة وحاجبا مزججا وفاحما ومرسنا مسرجا
فإن هذه تتعلق بلفظ واحد، وهو مسرج، الذي لم يعرفوا هل هو من السيف السريجي أو من السراج، ولكنها الغرابة في بنية الكلام وصياغته أي قاموسه وأسلوبه، وقد قرأت ديوانا شعريا كاملا مكتوبا بالحروف العربية وألفاظها، فلم أفهم منه إلا اسمي رابعة العدوية وعروة بن الورد، وهو من إبداعات الشعر الحر الذي ملأ الساحة وحير الناس..
إن هذا لهو العجب العجاب، أن يرد الإنسان في الحافرة بعد أن هدي إلى الصراط المستقيم، ويكون السبب في ذلك هو جهله بتراثه الخاص به وزهده فيه والارتماء في أحضان التراث الأجنبي، بذريعة والتفتح على الثقافة العامة والانتفاع بالتراث الإنساني المشاع بين الأمم والشعوب على اختلاف أجناسها وألوانها حتى لو كان متعارضا مع تراثه الخاص في الجوهر والعرض، ولا سيما التراث العربي الإسلامي الذي يحتوي على كنوز من المعرفة وذخائر من الآداب طالما استمد منها الآخرون، وكانت سبب نهضتهم وإثراء ثقافاتهم، فكيف إذا تعلق الأمر بالمقومات الذاتية للأمة التي ينسب إليها من عقيدة وشريعة ودستور خلقي عظيم، إنها معالم لا يجوز أن يتخطاها أحد يحافظ على كرامة أمته، ويعمل لرفع شأنها وإحلالها المكانة اللائقة بها بين الأمم”. نحن والتراث للشيخ عبد الله كنون الأمين العام السابق لرابطة علماء المغرب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *