أهمية الإصلاح بين الدعاة

الإصلاح بين الناس من أعظم القربات التي تواترت النصوص الشرعية على تأكيدها والحثّ عليها والتحذير من عواقب مخالفتها، ومن ذلك قول الحق تبارك وتعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]، وقال تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:224]، وقال تعالى: {إنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10].
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإصلاح، وحذَّر من تركه، فعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ قالوا: بلى. قال: إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين هي الحالقة)[1].
وقال صلى الله عليه وسلم: (صِلْ بين الناس إذا تفاسدوا، وقرب بينهم إذا تباعدوا)[2].
وأكدت سنة النبي صلى الله عليه وسلم العملية على السعي في الإصلاح، ومن ذلك: أنَّ أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: (اذهبوا بنا نصلح بينهم)[3].
وعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- أنَّ ناساً من بني عمرو بن عوف كان بينهم شيء فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه يُصلح بينهم[4].
ولعظم المصالح المترتبة على تأليف القلوب، قال صلى الله عليه وسلم: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً)[5].
ومن أعظم شعب الإصلاح: الإصلاح بين العلماء والدعاة والجماعات والتجمّعات الإسلامية؛ لأن الفساد المترتب على تهاجرهم وتدابرهم له آثار متعدية على الدعوة والدعاة؛ ولذا كان التواصي بإصلاح ذات البين وقطع مادة النزاع والتدابر من الأوليات المهمة التي ينبغي إشاعتها وترسيخها في الأوساط العلمية والدعوية، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس في هذا السبيل صنفان: مفاتيح للخير، ومفاتيح للشر، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنَّ من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإنَّ من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه)[6].
فمفاتيح الشر: يسعون بين الدعاة بالنميمة، والتحريش بين المصلحين، ويستثيرون النزاعات والخصومات، ويستدعون الخلافات مهما دقَّت، ويُلبسون ذلك -أحياناً- لباس النصيحة والغيرة على الدين وأهله، وهؤلاء من أبغض الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنَّ أبغضكم إليَّ المشاؤون بالنميمة، المفرِّقون بين الأحبة، الملتمسون للبُراء العنت)[7].
ومفاتيح الخير: الذين يستجيبون لأمر الله تعالى بالإصلاح، ويهتدون بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في حرصه على المحبة وأواصر الأخوة ووحدة الكلمة وتأليف الصفوف.
وشتان شتان بين من يكون معول هدم يخرق سفينة الدعاة ويشرخ وحدة الأمة بالقيل والقال، وإثارة الأغلوطات، والتفريق بين الأحبة؛ ومن يبني ويرص الصفوف، ويجمع شتاتها، ويصلح الله على يديه شعث الأمة!
وفي هذا الباب يقول ابن تيمية: (تعلمون أن من القواعد العظيمة التي هي من جماع الدين: تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، وإصلاح ذات البين.. وأهل هذا الأصل هم أهل الجماعة، كما أن الخارجين عنه هم أهل الفرقة)[8].
ـــــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه أحمد (27508)؛ والترمذي (2509)؛ وصححه الأرناؤوط في تحقيقه للمسند.
[2] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (7/3544)؛ والبزار في كشف الأستار (2060).
[3] أخرجه البخاري (2693).
[4] أخرجه البخاري (2690)؛ ومسلم (421).
[5] أخرجه البخاري (2692)؛ ومسلم (2605).. وقد اختلف العلماء في المقصود بالكذب الجائز على قولين: فالخطابي يرى جواز الكذب بقصد الإصلاح مطلقاً، والطبري يرى أن الكذب غير جائز أصلاً، وإنما الجائز هو التعريض. انظر: شرح مسلم للنووي (16/158)، وفتح الباري (5/300).
[6] أخرجه ابن ماجه في المقدمة (237)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1332).
[7] حسنه لغيره الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (2849)، وفي صحيح الترغيب والترهيب (2824).
[8] ابن تيمية، مجموع الفتاوى: (28/51)، وانظر: (22/254).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *