من تاريخ الصهيونية..  المرجعية التي أنتجت النازية هي نفسها التي أنتجت الصهيونية محمد زاوي

 

1-الصهيونية القديمة

لا يرجع إسماعيل راجي الفاروقي الصهيونية إلى جذورها الحديثة فقط، بل يغوص أعمق من ذلك باحثا عن جذورها القديمية.

إنها في نظره “حركة سياسية” ظهرت بعد انحراف التنوير الأوروبي، وهي أيضا “حركة دينية فكرية” قديمة جدا. فقبل أن تطرأ الصهيونية الحديثة على المرجعية الفكرية ليهود أوروبا، كانت لها قابلية في معتقدات اليهود نفسها. تلك القابلية هي التي يسميها الفاروقي “صهيونية قديمة”، صهيونية أعرق خضعت لتحولات حكمها تاريخ اليهود، من بطريركية و”خروج” و”منفى” و”عودة” إلخ. أما الصهيونية القديمة قبل كل هذه التحولات، فهي تعني “الصهيونية في الأسفار الخمسة”، وهي “أقدم من الدين اليهودي بمعناه الملي الجغرافي. أصلها الدين العبري”، وهو “ما كان يدين به اليهود قبل سقوط أورشليم بيد البابليين”. (1)

2-خروج الصهيونية الجديدة من رحم الصهيونية القديمة

يعني ذلك أن بوادر العنصرية وفريضة العودة وغيرها من الأفكار التي تشكل الفكر الصهيوني، أفكار قديمة ما كان للصهيونية الحديثة إلا أن خاطبتها وبنت عليها. وعلى أساسها جاء الحل الصهيوني الذي “هو باختصار أن يكون لليهود مجتمعهم، ويكون لهم حقوقهم وواجباتهم ضمن دولة يهودية مستقلة، فيكون لهم الدين والقومية والحرية والاستقلال مجتمعين”. (2)

إن التنوير الذي كان يعني بالنسبة لليهود مجالا للتحرر والانعتاق من شروط ما قبل الحداثة في أوروبا، سرعان ما انتكس وانكمش داعيا إلى مزيد من العقلنة، وبالتالي إلى مزيد من الضبط، لمصلحة الدولة القومية. في هذا الشرط بالذات أصبح اليهود يرون “العالم كله ناقضا لمبادئ التنوير”. لقد “جاءت الصهيونية تؤكد انكماش اليهود على أنفسهم بعد أن فتحتهم حركة التنوير والتحرير، وأخذوا يتوجسون خوفا من اندلاع حركات لا سامية” (3). هنا بالضبط ستتبلور فكرة البحث عن وطن، تغذيها أفكار لم يجد يهود أوروبا مشقة في استخراجها من عقيدتهم ودينهم.

لم يساعد الواقع الأوروبي على اندماج اليهود، وعلى فك ارتباطهم بصهيونيتهم القديمة… عكس الواقع العربي الإسلامي، إذ الإسلام في نظر الفاروقي هو “النظام الأوحد الذي يحقق لليهود: الحرية والبقاء في ظل نظامه، الكيان الجماعي الذي تتطلبه قوميتهم الدينية”. (4)

3-الأصل الغربي للفكرة الصهيونية

الصهيونية، في النموذج التفسيري لعبد الوهاب المسيري، هي مثال لما يسميه “اللحظة العلمانية النماذيجية الشاملة”، وهي تعبير عن “الإنسان المادي/ الطبيعي” (5). إنها الفلسفة المؤطرة للإجرام الصهيوني في أبشع صوره، مرجعيتها “نهائية كامنة” بتعبير المسيري، تفسر الظواهر بالكامن ابتغاء مصلحة كامنة.

إن “المرجعية النهائية الكامنة” التي أنتجت النازية، هي نفسها التي أنتجت الصهيونية. فبينهما، حسب المسيري، “أصول فكرية مشتركة”. فهما معا “ليسا بأية حال انحرافا عن الحضارة الغربية الحديثة، بل يمثلان تيارين أساسيين فيها” (6).

يقول المسيري إن “الغرب الذي أفرز هتلر وغزواته، هو نفسه الذي نظر بإعجاب إلى الغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان وبيروت وأنحاء أخرى من العالم العربي” (7).

في ذات الكتاب، “الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ”، يحاول المسيري إيجاد بعض القواسم الفكرية المشتركة بين الإيديولوجيتين النازية والصهيونية، والتي لعل من أبرزها: “القومية والعضوية” و”النظريات العرقية” و”تقديس الدولة” و”النزعة الداروينية النيتشوية” إلخ. وكلها عناصر تنتج لدى الفرد النازي أو الصهيوني عنصرية أكثر تشددا وتطرفا، تتسم ب”التمركز على العرق والدم والتراب” و”استبعاد الآخر/ الشعب العضوي المنبوذ”. (8)

4-“الهجرة الصهيونية”

أول من دعا إلى “هجرة يهودية” هو نابوليون بونابرت، وذلك بغرض تجييش اليهود وشق الصف الإسلامي بهم. وقد كانت دعوة نابوليون هذه مقتصرة على يهود الشرق دون غيرهم، تحثهم على إعلانها ثورة على التشرد والشتات والطغيان الإسلامي، وتدفعهم دفعا إلى تأسيس دولتهم المشروعة تحت الحماية الفرنسية. ومما ورد في هذا النداء: “الإسرائيليون هم الأمة الفريدة التي لم تستطع آلاف السنين وشهوة الفتح والطغيان أن تجردهم سوى من أرضهم، ولكن ليس من اسمهم وكيانهم القومي (…) ألا ثوروا، يا أيها المشردون، وأعلنوها حربا لم يحدث مثلها في تاريخ البشرية، حرب تقوم بها أمة اعتُبِرت أرضها –بجرة قلم من الحكام-غنيمة لأعدائها الذين يريدون، بفظاظة، تقاسمها فيما بينهم وكما يشاؤون. إن فرنسا تنتقم لعارها وعار أبعد الأمم التي تركت منسية وقتا طويلا تحت أغلال العبودية، وتنتقم للعار الذي أحاق بكم خلال ألفي سنة”. (9)

هذا سياق، ولـ”الهجرة الصهيونية”، قبل 1948م، سياق آخر يتجلى في: رغبة الدول الرأسمالية الغربية (بريطانيا، ألمانيا، فرنسا… إلخ) في التخلص من أقليات يهودية أصبحت عبئا عليها، شل القدرات العربية الإسلامية بكيان دخيل عليها، تسهيل سبل استغلال خامات الوطن العربي (النفط والغاز الطبيعي) والتحكم في أسعارها… إلخ. هذه هي أهم الأسباب التي جعلت دولا بعينها تشجع هجرة اليهود إلى فلسطين، ومن هذه الدول: بريطانيا (وعد بلفور، 1917)، ألمانيا (اتفاقية هارفا، 1933)… إلخ. أما الولايات المتحدة الأمريكية، فقد أيدت كل عمليات التهجير هذه، ودعمتها باتخاذ قرار الامتناع عن استقبال جماهير اليهود على أراضيها. (10)

5-الاحتلال الصهيوني

سمح إعلان دولة “إسرائيل” دولة لليهود، على أرض فلسطين عام 1948، بإمكانيات غير مسبوقة للهجرة إليها من كل مكان. فكان كل ذلك بمثابة استباحة لأرض الفلسطينيين ودمائهم، لتنتشر: الفوضى في كل مدن وقرى فلسطين، الإبادات الجماعية في حق الفلسطينيين، تهجير وطرد الفلسطينيين من أراضيهم ومنازلهم وقراهم ومدنهم وتحويلهم إلى لاجئين في الدول المجاورة، الاعتداء على الرموز والخصوصيات الفلسطينية، تدمير المنشآت التاريخية… إلى غير ذلك من الجرائم التي جاءت “النكبة” محملة بها، أمام أنظار العالم بأسره.

لقد كانت هذه “النكبة” نتاجا للاستعمار البريطاني والأطماع الإمبريالية في المنطقة، ولذلك تسترت الدول الغربية الإمبريالية على الجرائم التي ارتُكِبت فيها. ولم تكن الدول والمنظمات العربية لتبقى مكتوفة الأيدي إزاءها، بل إنها أرسلت قواتها من الأردن والعراق ومصر وسوريا… إلخ، إلى فلسطين، دعما للشعب الفلسطيني في معركته أمام احتلال أبشع من سابقه. وبالرغم من كل المحاولات، سقطت فلسطين في أيدي “الصهاينة”، فتأكدت “النكبة”. (11)

مراجع:

(1): إسماعيل راجي الفاروقي، أصول الصهيونية في الدين اليهودي، مكتبة وهبة، الطبعة الثانية، 1988، ص 7-8-وصفحات أخرى في الكتاب.

(2): إسماعيل راجي الفاروقي، الملل المعاصرة في الدين اليهودي، مكتبة وهبة، الطبعة الثانية 1988، ص 106

(3): نفس المرجع، من ص 113 إلى ص 120.

(4): نفس المرجع، ص 122.

(5): عبد الوهاب المسيري الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان.

(6): عبد الوهاب المسيري، الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ، ص 131.

(7): نفس المرجع، ص 231.

(8): نفس المرجع.

(9): من نداء نابوليون بونابرت ليهود الشرق.

(10): راجع: “اليهود أنثروبولوجيا”، جمال حمدان.

(11): راجع: “فلسطين: التاريخ المصور”، طارق السويدان.

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *