الأمم المتحدة.. وأزمـة دارفور

مع بداية مارس 2004 م أدانت الولايات المتحدة ممارسات “الجنجويد” ودعت الأحزاب للتفاوض على وقف إطلاق النار، واحترام القانون الإنساني، ونزع أسلحة القوات غير الشرعية، وفي هذا الوقت كانت الإدارة الأمريكية تشجع على اتفاق سلام بين الحكومة والحركة الشعبية، في حين كان اقترابها لصراع دارفور ينقصه نفس التشجيع، على اعتبار أن الاتحاد الأفريقي يقوم بدور في حل الصراع.
وفي ذلك الوقت صدر تقرير مجموعة الأزمات الدولية “ICG” متحاملاً على الخرطوم، وداعيًا المجتمع الدولي لعمل حاسم، وأن يكون مستعدًا لاستعمال القوة إذا استدعي الأمر، وذلك لإنقاذ حياة مئات الآلاف من المدنيين المعرضين لخطر الموت بسبب حملة السودان لقمع التمرد في إقليمه الغربي.
واقترح تقرير مجموعة الأزمات الدولية عدة اقتراحات بالنسبة لأطراف الصراع، ومجلس الأمن، فبالنسبة لحكومة السودان الالتزام بمفاوضات سياسية بتسيير دولي مع متمردي “دارفور” هدفها وقف إطلاق النار بمراقبة دولية، ووقف كل المساعدة “للجنجويد” والميليشيات الأخرى، وتجريدهم من السلاح، ومحاكمة من يستمر منهم في مهاجمة المدنيين، والسماح لفريق مراقبة حماية المدنيين مباشرة، والتحري في المزاعم المتعلقة بالهجوم على المدنيين في “دارفور” من ميليشيات “الجنجويد” التي تساندها الحكومة.
و أصدر مجلس الأمن الدولي في حينه قرارات تتضمن ما يلي:
ـ التنديد بانتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها كافة الأطراف في دارفور.
ـ الدعوة إلى مفاوضات سياسية تحت مراقبة دولية بين الحكومة ومتمردي دارفور هدفها الأول وقف إطلاق النار بمراقبة دولية.
ـ الحث على نهاية سريعة لمحادثات سلام لإيجاد اتفاق سلام شامل بين الحكومة والجيش الشعبي.
ـ كفالة عودة اللاجئين إلى مواطنهم، وتنسيق دعم مالي دولي لإعادة توطنيهم واستقرارهم.
وكان هذا التقرير بمثابة خطة عمل للولايات المتحدة في أزمة دارفور، حيث عملت الإدارة الأمريكية على تصعيد الأزمة من أجل استصدار قرار من مجلس الأمن الدولي، فوصل في 29/6/2004م وزير الخارجية الأمريكي الأسبق “كولن باول” إلى الخرطوم للتحقق من صحة الأحداث في “دارفور”، وفي 30 يوليو أصدر مجلس الأمن القرار رقم 1556 (الذي اعتمد بغالبية 13 صوتًا مع امتناع الصين وباكستان)، الذي يمهل الحكومة السودانية 30 يومًا للسيطرة على الوضع في “دارفور” وحل ميليشيات “الجنجويد”، وتقديم العون للنازحين وإعادتهم لمناطقهم وحمايتهم.
وفي الوقت نفسه كان اجتماع قمة الدول الثمانية “G8” في “سي أيلاند” في ولاية “جورجيا الأمريكية” -يونيو 2004م قد أصدر بيانًا عن السودان رحب فيه بدور الاتحاد الأفريقي في حل أزمة دارفور ـ وليس الجامعة العربية ـ بناء على تقسيم أمريكي يعتبر السودان دولة تنتمي إلى القرن الأفريقي، ومن ثم يفصلها عن محيطها العربي، وكان الأمريكيون ينفذون توصيات تقرير مجموعة الأزمات الدولية المشار إليه فيما يتعلق بشركاء الإيجاد: (الولايات المتحد، بريطانيا، النرويج)، ويدعو إلى التنسيق مع الدول الأخرى بما فيها فرنسا وتشاد لخلق إطار للتفاوض السياسي بين الحكومة والمتمردين، والتأكيد على الحكومة بأن أي فوائد يتم اكتسابها من محادثات الإيجاد سيتم سحبها إذا عارضت الحكومة المفاوضات الخاصة بتحديد جذور الصراع في “دارفور”.
ومن ثم يمكن القول: إن الأمم المتحدة لها دور أساسي في الفترات الانتقالية التي تتبع تسوية الصراعات حتى تضفي صفة “الشرعية الدولية” على تلك الفترات، كما أن هناك مصالح مشتركة بين الولايات المتحدة والدول الغربية تصل إلى ما هو أبعد من حدود الحرب الباردة، ويظهر ذلك خلال كلمات الرئيس “جيرالد فورد” أمام مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا عام 1975م في “هلسنكي” عندما قال: “إن الولايات المتحدة وأوربا مرتبطتان بعلاقات وثيقة، وفي مقدمتها حب الحرية والاستقلال، هي المبادئ التي لا تعرف دولة محددة بعينها، وإنما هي راسخة في قلوب جميع شعوب العالم”.
وبينما كانت الحكومة وحركات التمرد في دارفور تجريان مفاوضات برعاية الاتحاد الأفريقي في العاصمة النيجيرية “أبوجا”، أصدر مجلس الأمن قرارًا رقم 1564 يهدد السودان بعقوبات نفطية إذا لم يوقف الأعمال الوحشية بدارفور، وقال السفير الأمريكي في الأمم المتحدة “جون دانفورث”: “نعمل اليوم؛ لأن حكومة السودان أخفقت في الالتزام الكامل بقرارنا السابق الذي جرى تبنيه في 30/7/2004م زاعمًا أن أزمة دارفور أكبر كارثة إنسانية في العالم”.
ويلاحظ على القرار الجديد تركيزه على النفط وهو ما دعا مبعوث الأمم المتحدة الخاص للسودان “يان برونك” أن يوضح أن العقوبات النفطية قد تؤثر على إمدادات الوقود، وتضر بالجهود لنقل الغذاء إلى سكان دارفور. فضلاً عن أن العنصر الأساسي في القرار رقم 1564 يكمن في أنه يكرس الدور المركزي للاتحاد الأفريقي في جهود حل أزمة دارفور فيقول “دانفورث”: “إن مفتاح كل ذلك هو مشاركة الاتحاد الأفريقي، وينبغي علينا الآن التركيز على موضع تمركز المراقبين، وأن نكون على أهبة الاستعداد لتقديم أي مساعدة لوجستية يحتاج إليها الاتحاد الأفريقي”.
إن النظر بعمق في قرار مجلس الأمن حول دارفور يكشف عن مدى الظلم والجور الذي يمارسه ما يسمى بالنظام الدولي بحيث أن العديد من القرارات الدولية صارت تصدر بشكل ينافي ويناقض مبادئ ما يسمى بالقوانين الدولية وأن هذا الاختلال من شأنه أن يحول القرارات الدولية إلى مهزلة لأنها – في هذه الحالة – تخرج عن سياق المبادىء الأساسية التي أنشئت المنظمة الدولية من أجلها.
ومنذ بداية الأزمة استخدم الأمريكيون كالعادة الشعارات الأخلاقية لتمرير سياستهم في السودان كحقوق الإنسان وعودة اللاجئين وإقرار الأمن والسلام… ويرى الكاتب البريطاني “جون لاغلان” أن الأخلاق ستعمل كذريعة لتبرير الحروب العسكرية، إلا أن التدخل العسكري المحتمل في السودان سيوفر خزان نفط ضخمًا، وغير مستغل جنوب إقليم دارفور وجنوب السودان.
وفي قول لا يخلو من الدلالة وصف “كورت فالدهايم” السكرتير العام الأسبق للأمم المتحدة أن الأمم المتحدة: ما هي إلا آلية للكذب من أجل السلام..
وهذا التعبير من مسؤول سابق عن تلك المنظمة يفتح الطريق وينير البصيرة عن فائدة هذه الأمم المتحدة ودورها وفقًا للطريقة التي تم إنشاؤها بها والمفروض أنها تجمعٌ يضم “191 دولة حاليًا” تسعى لنشر الأمن والسلام وحل النزاعات وتحقيق العدل، فإن شيئًا من ذلك لم يحدث قط اللهم إلا إذا توافقت مصالح الكبار أو جاء الحل وفقًا لمصلحة هذه المصالح.
وإلا فأين الأمم المتحدة في العراق الذي يعرف أضعافَ أضعافِ ما يعرفه إقليم دارفور؟
وأين هي في الشيشان؟
وأين هي في فلسطين؟
الخلاصة، مادام مجلس الأمن يتحكم في قراراته من يملكون حق النقض “الفيتو” فلن يصدر عنه إلا ما وافق مصالح الدول الغربية الكبرى والتي دأبت على طرحه في وجه الدول المستضعفة كلما رفع إليه مشروع قرار يلوح ولو من بعيد بمجرد تنديد.
وعلى من يبشرنا بالشرعية الدولية وبحقوق الإنسان وبالكونية أن يدرس كم من مرة استعملت أمريكا والدول المستحوذة على مجلس الأمن حق الفيتو لصالح إسرائيل وضد مصالح المسلمين حتى يتبين له أنما خرجنا من استعمار دولة أو دولتين ليعمنا استعمار دول تنهب وتغتصب باسم الشرعية الدولية التي فرضتها على رقابنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *