من صور تزييف الوعي، وما أكثر صوره في مجتمعنا، ادعاء أن من يرفض الحرية وفق الطرح العلماني فهو متطرف ووهابي..؛ إلى آخر تلك العبارات المبتذلة؛ وأنه لا يتبنى المرجعية الدينية المغربية والمذهب المالكي المنفتح السمح على وجه الخصوص.
هذا الطرح الذي يتكرر على مسامعنا في العديد من المناسبات، طرح ضعيف وساذج، ينم عن جهل بالتراث المالكي، ويكشف أن غاية مروجيه هي قمع حق الآخر في التعبير، وإخراس صوته، وإقصائه.
فلا أحد يرفض الحرية ويسعى إلى الوقوف في وجهها، لكن عن أي حرية نتحدث؟! فهنا يكمن الشيطان.
هل نتحدث عن الحرية منزوعة القيمة التي لا تعترف بمقدس، وتلغي الإله، وتجعل الإنسان محورَ الكون، أم عن حرية تعلي بالمقدس، وتؤطر بالوحي، وتنضبط بالقيم.
وهذا عين ما تفطن له بعض علماء المغرب ومؤرخيه، فميزوا بين أنواع الحريات، وقبلوا بالحرية المنضبة بالقيم ورفضوا بالمقابل الحرية وفق المفهوم العلماني اللاديني.
قال المؤرخ أحمد الناصري رحمه الله تعالى المزداد (1250هـ/1835م) في الاستقصا (8/130): “واعلم أن هذه الحرية التي أحدثها الفرنجُ في هذه السنين هي من وضع الزنادقة قطعا، لأنها تستلزم إسقاط حقوق الله وحقوق الوالدين وحقوق الإنسانية رأسا.
أما إسقاطها لحقوق الله فإن الله تعالى أوجب على تارك الصلاة والصوم، وعلى شارب الخمر، وعلى الزاني طائعا حدودا معلومة، والحريةُ تقتضي إسقاط ذلك كما لا يخفى.
وأما إسقاطها لحقوق الوالدين؛ فلأنهم -خذلهم الله- يقولون إن الولد الحدثَ إذا وصل إلى حد البلوغ، والبنتَ البكر إذا بلغت سن العشرين مثلا، يفعلان بأنفسهما ما شاءا، ولا كلام للوالدين فضلا عن الأقارب فضلا عن الحاكم، ونحن نعلم أن الأب يسخطه ما يرى من ولده أو بنته من الأمور التي تهتك المروءة وتزري بالعرض، سيما إذا كان من ذوي البيوتات، فارتكاب ذلك على عينه مع منعه من الكلام فيه موجب للعقوق ومسقط لحقه من البرور.
وأما إسقاطها لحقوق الإنسانية فإن الله تعالى لما خلق الإنسان كرمه وشرفه بالعقل الذي يعقله عن الوقوع في الرذائل، ويبعثه على الاتصاف بالفضائل، وبذلك تميز عما عداه من الحيوان، وضابط الحرية عندهم لا يوجبُ مراعاة هذه الأمور، بل يبيح للإنسان أن يتعاطى ما ينفر عنه الطبع، وتأباه الغريزة الإنسانية، من التظاهر بالفحش والزنا وغير ذلك إن شاء، لأنه مالك أمر نفسه فلا يلزم أن يتقيَّد بقيد، ولا فرق بينه وبين البهيمة المرسلة إلا في شيء واحد، هو إعطاء الحقِّ لإنسان آخر مثله، فلا يجوز له أن يظلمه، وما عدا ذلك فلا سبيل لأحد على إلزامه إياه، وهذا واضح البطلان؛ لأن الله تعالى حكيم وما ميز الإنسان بالعقل إلا ليحمِّله هذه التكاليف الشرعية، من معرفة خالقه وبارئه والخضوع له، لتكون له بها المنزلة عند الله في العقبى {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الأحزاب.
واعلم أن الحرية الشرعية هي التي ذكرها الله في كتابه، وبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وحررها الفقهاء رضي الله عنهم في باب الحجر من كتبهم، فراجع ذلك وتفهمه ترشد وبالله التوفيق”. اهـ.
وقال الأمين العام السابق لرابطة علماء المغربية العلامة عبد الله كنون رحمه الله تعالى:
(يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم”، والتفسير الواقعي لهذا الحديث الذي ليست فيه شائبة ميتافيزيقية، هو أن الأمة مدعوة إلى القيام بهذا الواجب لضمان سلامتها من عوامل الانحلال وأسباب الاضمحلال، فإن ضيعته فإن الأمراض الاجتماعية ستستشري فيها بسيطرة الأشرار عليها وتوجيهها إلى المصير المظلم الذي تتردى فيه، فلا تقوم لها قائمة، ولا تنفعها بعد دعوة ولا دعاء، وهذا أمر مشاهد -مع الأسف- لا يمتري فيه أحد، وهو معقول المعنى، إذ أن السكوت عن المناكر بله تشجيعها بحجة احترام الحرية الشخصية، قد أدى شيئا فشيئا إلى انتشارها بكيفية فظيعة حتى طفت على السنن المعروفة، وقامت لها دولة وسلطان، فلا يقدر أحد الآن أن يغيرها، والذي يدعو إلى ذلك يصير هزؤا وسخرية بين الناس)اهـ. مجلة دعوة الحق.
ومن له عناية بالتراث الشرعي يعلم علم اليقين أن ما يسوق له اليوم في مجال الحقوق والحريات (حرية المعتقد، الحرية الجنسية..)، لا علاقة له لا بالمذهب المالكي فحسب، بل بكل المذاهب الإسلامية الأخرى، وهو مناقض للدين من أساسه.