الأسرة الطبيعية وتحديات الكونية

تعرضت الشعوب الإسلامية -خلال مسيرتها الطويلة- لغزوات متنوعة عسكرية، وسياسية، واقتصادية بذل فيها المستعمرون ومن دار معهم من المثقفين والحكام والمفكرين جهودا جبارة في جعل الإسلام صورة باهتة في أدمغة المسلمين وإبعاده تماما كمنهج حياة، إلا أن هذه الشعوب امتلكت خاصية عجيبة وهى استعصائها على الغازي المستعمر أي كان لونه أو جنسيته والاحتفاظ بقيمها الأصيلة، صحيح أنه قد تأخذها سِنة من النوم في بعض الأحيان إلا أنها ما تلبث أن تفيق وتسترد عافيتها شيئًا فشيئا، وتفيء إلى حضارتها وأصالتها سالمة غانمة، بل في كثير من الأحيان تصبغ هي المستعمر بصبغتها ويحلو له أن ينتمى الى دائرتها العربية الإسلامية طائعا غير مكره.
والسبب الرئيسي في هذا هو حصن الأسرة الذى كان ولايزال قلعة الصمود أمام أي محاولة للتغريب بل ونقطة الانطلاق لإصلاح الكثير من دفاعات العالم الإسلامي التي تصدعت في أكثر من موقع.
وقد شهدت بهذا هيئة الأمم المتحدة في تقريرها الذي أصدرته عام 1975 بمناسبة العام العالمي للمرأة “إن الأسرة بمعناها الإنساني المتحضر، لم يعد لها وجود إلا في المجتمعات الإسلامية، رغم التخلف الذي تشهده هذه المجتمعات في شتى المجالات الأخرى”.
لذا لم يُخفِ ممثل صندوق السكان في الأمم المتحدة UNFPA في هولندا “آري هوكمان” سعادته الشديدة بانهيار الأسرة على المستوى العالمي، حيث قال في ندوة عقدت مؤخرا في المكسيك: “إن ارتفاع معدلات الطلاق، وكذا ارتفاع معدلات المواليد خارج نطاق الأسرة يُعدُّ نصرًا كبيرًا لحقوق الإنسان على البطرياركية”!!
إلا أنه للأسف في الآونة الأخيرة تعرضت الأسرة في مجتمعاتنا لحملات شعواء في مختلف بلادنا العربية والإسلامية وفي فترات زمنية متقاربة -وكأن هناك خيوط تحرك الدمى الموجودة في بلادنا من جمعيات أهلية ومجالس قومية و..- تنعق بمفردات القهر والذكورية وحقوق المرأة المهدورة وسجن الأسرة الذى يلعب فيه الرجل دور الجلاد وتؤدى المرأة دور الضحية وغيرها من دعاوى شتى تتمركز غالبيتها حول المرأة لإعطائها المزيد من الحريات.
هذا في الوقت الذى لا تلقى فيه فئات أخرى في المجتمع وقضايا أكثر خطورة نفس الاهتمام، بما يكشف عن مشروع تغريبي لا يخفى على كل ذي لب، تحت دعاوى متعددة وجدت لها رواجا في زمن التراجع الحضاري للأمة الإسلامية وهيمنة الحضارة الغربية في عصرنا الحالي سُميت بالتحديث تارة، وبالاستجابة لمتغيرات العصر تارة أخرى، معبرة عن ملامح النظام العالمي الجديد الذى أشار اليه “فرنسيس فوكوياما” الياباني الأصل والأمريكي الجنسية أن على العالم أن يتقبل النظام الجديد بكل ما فيه من حرية، وأن الولايات المتحدة هي التي بدت تسطر نهاية التاريخ بعد تبنيها للفكر المتحرر والديمقراطية والرأسمالية للعالم، وأن من رفض وآبي ظلٌ وسيكون في نظر العالم هو الأكثر تخلفاً عن الدول التي تقبلت الوضع.
والذي تولى كبر تسويق قيم هذه الحضارة -خاصة في جانبها الاجتماعي والسلوكي- هيئة الأمم المتحدة وبالتحديد لجنة مركز المرأة فيها، وذلك من خلال عقد المؤتمرات العالمية وما يعقبها من استصدار حزمة من المواثيق حيال العديد من القضايا الاجتماعية تحت مسميات عدة كالتنمية، والسكان والمرأة والطفل وأدت في مجملها إلى تصدير نمط حياة يحطم الحواجز الأخلاقية وينشر الإباحية ويعارض القيم الدينية إلى حد اعتبار أن مفهوم الأسرة الذى يشرعه الدين ليس إلا مفهوما عقيما وقيدا على الحريات الشخصية لأنه لا يتقبل العلاقات الجنسية الحرة بين مختلف الأعمار، ويشترط أن تكون هذه العلاقات بين ذكر وأنثى وضمن الإطار الشرعي، واعتبروا أن الأسرة الطبيعية (التقليدية على حد تعبير الوثائق) هي التي تؤصل ما أطلقوا عليه (أدوار نمطية) للأبوة والأمومة ..الخ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *