أثبتت الأيام أن ما حاول الرئيس الأمريكي أن يعتذر عنه- وذلك حين قرر أكثر من مرة ومنذ اللحظة الأولى من توليه الرئاسة بل وبعد تصويت الشعب الأمريكي لفائدته للمرة الثانية، بأنه سيجعل عنوان حربه القادمة (الحرب الصليبية) وأنها ستكون حرباً طويلة الأمد ضد المسلمين وضد ثوابت دينهم لتخليص العالم من الإرهاب وممن وصفهم بفاعلي الشر على حد زعمه- لم يكن زلة لسان وإنما هو بالضبط ما يسعى له ويعيّن من أجل تنفيذه الصقور، فقد قام بعد توليه الفترة الأولى -وكما سبق وأن أشرنا- بحشد 265 ألف جندي أمريكي موجودين في قواعد خارج البلاد وباستدعاء 50 ألف من جنود الاحتياط الأمريكيين كما أعلن مساء الخميس 20/9/2001 أمام مجلس الكونجرس (الشيوخ والنواب) أن “بلده في حالة حرب، وأن من لا يقف معنا ويشارك في الحرب فهو يقف مع الإرهاب”.
وقد ظهرت مؤخراً دراسات عديدة من كتاب وصحفيين أمريكان كلها تؤيد وتؤكد أن هدف الحرب الحالية التي تقودها أمريكا هو القضاء على الإسلام بتشويه صورته، وإذابة المسلمين وتغييبهم عن جوهر قضيتهم وتركيعهم واحتلال أرضهم وتنصيرهم وتصييرهم أمة علمانية تنحِّي الإسلام جانباً وتدين بما يدين به غيرها، وقد وجدوا ضالتهم في (العراق) حاضرة الخلافة العباسية -والمسماة في كتبهم باسم بابل الزانية- لتنفيذ مخططاتهم، كما وجدوها في هذه الأيام العجاف حين تخلى المسلمون عن ثوابت دينهم، ومبادئ عقيدتهم وأحكام شريعتهم، فعاث الغرب فسادا في ديارهم وعمدوا إلى تقسيم أراضيهم بدعوى بناء شرق أوسط كبير، وتغيير مناهجهم بدعوى تجديد الخطاب الديني والإصلاح السياسي وتطوير المناهج وحذف كل ما من شأنه أن يؤدي إلى العنف الذي يقصدون به (الجهاد)، أو يدعو إلى العفة والفضيلة بحجة مواكبة متطلبات العصر، في وقت تقوم فيه حروب هؤلاء المعادين للإسلام ولكل القيم النبيلة على أساس ديني، ولإكراه الناس للدخول في النصرانية، وصدق الله القائل: “وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ” (البقرة).
إن هذا العدوان الفكري الإعلامي على الإسلام ونبيه محمد عليه الصلاة والسلام من جانب رجال الدين الإنجيليين ووسائل الإعلام الغربية- الذي يُعبِّر عن عقيدة موروثة ويمثل الدوافع الحقيقية لحرب دينية مصطنعة- ليس إلا وسيلة تمهيدية ضمن وسائل كثيرة يشملها هذا العدوان السافر على الإسلام والمسلمين، والذي يهدف ضمن ما يهدف -رغم كل الأقنعة الزائفة التي يستتر بها- إلى مسخ هوية الأمة الإسلامية وتحويلها عن دينها وتدمير عقيدتها، وتمزيقها إلى دويلات وطوائف متناحرة لا تدين بالولاء إلا لأمريكا والكيان الصهيوني، ونهب ثرواتها ومقدراتها، وتحويلها إلى مجرد مجتمعات استهلاكية لمنتجاتهما وتحويل كل فرد مسلم إلى مجرد كائن بهيمي لا حافز له ولا هم إلا السعي اللاهث وراء لقمة العيش وإشباع غرائزه الفطرية، وهذا ما نظره رأس منصريهم وموجهيهم القس الحاقد “صموئيل زويمر”: “..لكن مهمة التبشير التي ندبتكم لها الدول المسيحية في البلاد الإسلامية ليست في إدخال المسلمين في المسيحية، فإن في هذا هداية لهم وتكريما (!!!) وإنما مهمتكم هي أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقا لا صلة له بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها”. (مؤتمر القدس التنصيري عام 1935م).
ولعله قد وضح لنا الآن بالحقائق كيف نمت حضارة الغرب وترعرعت في منبت السوء بعيداً عن القيم والأخلاق والمبادئ، وها هي الآن تؤتي ثمارها مراً وحنضلاً، وتفرغ جام حقدها على الإسلام، وتعض اليد الكريمة التي أسهمت في نموها وامتدت لإنقاذها من وهدتها..
ولعله كذلك قد وضح كيف تداعت -بدافع الحقد وبمجموعة من الأغاليط- علينا الأمم وتحققت فينا -بسبب غفلتنا وانغماسنا في شهوات الدنيا- نبوءة نبينا صلى الله عليه وسلم حيث قال: “يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها”، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: “بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن”، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: “حب الدنيا وكراهية الموت”. صحيح، أخرجه أبو داود وغيره.
وكيف مهدت هذه الأمم المنساقة في عصرنا الحاضر وراء شهواتها وشبهاتها لحروبها الصليبية بالغزو الفكري والثقافي تماماً على غرار ما فعلت أيام الناصر صلاح الدين.. وكم هي الفخاخ التي نصبت لأمة الإسلام وهي تغط في ثبات طويل ونوم عميق.. وكم هي الفتن التي يتعرض لها إخوة الدين هنا وهناك وهي في غفلة.. وكم هي المحنة التي يعاني منها مسلمو فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرهما من بلاد المسلمين ولا تحرك ساكناً رغم كل ما يجري لهم ورغم الأحداث المتلاحقة، بل ولا تذكرهم حتى بالدعاء ورفع أكف الضراعة إلى الله حتى يزيل الغمة عن هذه الأمة؟
ويبقى السؤال عالقا بعد تداعي الأوربيين خلال القرنين الماضيين على بلاد المسلمين وإسقاطهم لخلافتهم: هل تكون الأمة الأمريكية آخر الأمم التي ستدعو غيرها إلى قصعة المسلمين؟