التساهل في الفتوى وتتبُّع الرخص سبيل الوقوع في المحذور

ظهر ضمن مناهج النظر في المناهج المعاصرة منهج الغلو والمبالغة في التيسير؛ وتعتبر هذه المدرسة الأكثر انتشارا في هذا العصر على المستوى الفردي والمؤسسي؛ وفي نظرهم أن هذا المنهج له مبرراته في هذا العصر الذي طغت فيه المادية على الروحية؛ وكثرت فيه المغريات وأصبح فيه المسلم كالقابض على الجمر.

وفي مقابل ذلك يعتبر منهج التشديد في الفتوى الأقل انتشارا؛ لكنه الأكثر تأثيرا في الواقع المعاصر بالنظر إلى الآثار الخطيرة والمدمرة لبعض تلك الفتاوي المتشددة في استباحتها لدماء الأبرياء وأموالهم؛ وزرع القلاقل والفتن السياسية والطائفية في بعض المجتمعات؛ وهو ما أدى في المحصلة إلى تفريغ الإسلام من محتواه وتعطيل رسالته وتشويهها والتعمية على صورة الإسلام النقية. (فوضى الإفتاء؛ د.أسامة الأشقر).
وقد ذهب عامة العلماء إلى أنه ليس للمفتي تتبع رخص المذاهب، بأن يبحث عن الأسهل من القولين أو الوجهين ويفتي به. ذلك أن الراجح في نظر المفتي هو في ظنه حكم اللّه تعالى، فتركه والأخذ بغيره لمجرد اليسر والسهولة استهانة بالدين شبيه برفع التكليف بالكلية. إذ الأصل أن في التكليف نوعاً من المشقة، فإن أخذ في كل مسألة بالأخف لمجرد كونه أخف، فإنه ما شاء أن يسقط تكليفاً -من غير ما فيه إجماع- إلا أسقطه. وإن أفتى كـل أحـد بما يشتهي انخرم قانون السياسة الشرعية، الذي يقوم على العدالة والتسوية، وهذا يؤدي إلى الفوضى والمظالم وتضييع الحقوق بين الناس.
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: لو أن رجلاً عمل بكل رخصة: يعمل بمذهب أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع (يعني الغناء)، وأهل مكة في المتعة، لكان فاسقاً. (لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية للسفاريني 2/466).
وقال سليمان التيمي: لو أخذت برخصة كل عالم، أو قال: زلة كل عالم، اجتمع فيك الشر كله. (لوامع الأنوار البهية، 2/466).
قال ابن سريج: سمعت إسماعيل بن إسحاق القاضي يقول: دخلت على المعتضد، فدفع إليّ كتاباً نظرت فيه وكان قد جمع فيه الرخص من زَلَلِ العلماء، وما احتج به كل منهم لنفسه، فقلت له: يا أمير المؤمنين! مؤلف هذا الكتاب زنديق، فقال: لم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث على ما رويت، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه. فأمر المعتضد فأحرق ذلك الكتاب. (السنن الكبرى للبيهقي، 10/356-357، ح: 20921).
هذه الأقوال تعني كذلك أن العامي المقلد، -أي الذي ليس لديه علم شرعي ويقلد مذهب مفتيه- يمكن أن يتخذ شيخا واحدا له يفتيه في كل أموره وشئونه. ذلك أن تتبع المفتين والعمل برخصهم سيفضي بالمستفتي إلى الوقوع في المحذور، كما حذر هؤلاء الأفذاذ.
وهذا ما نشاهده واضحا جليا في حياتنا المعاصرة، فمع قلة عدد المتفرغين لتلقي العلم الشرعي، وضحالة هذا العلم أساسا، اعتمد معظم الناس في أمور دينهم على استفتاء بعض الأفراد، ونتج عن هذا انتشار الآراء الضعيفة في المذاهب الفقهية بين الناس. كما أصبحت فتاوى الدين تأتي ممن ليس لهم أدنى علم بأمور الشرع؛ هذا إن لم يكونوا يحاربون الشرع من طرف خفي؛ بل كان لمناصبهم أكبر الأثر في انتشار آرائهم، كأن يكونوا أساتذة في جامعات إسلامية! أو رؤساء تحرير لصحف ومجلات عَلمانية.
على أن الذاهبين إلى هذا القول لم يمنعوا الإفتاء بما فيه ترخيص إن كان له مستند صحيح. قال ابن القيم: لا يجوز للمفتي.. تتبع الرخص لمن أراد نفعه.. فإن حسن قصده في حيلة جائزة لا شبهة فيها ولا مفسدة لتخليص المستفتي بها من حرج جاز ذلك، بل استُحبّ، وقد أرشد الله نبيَّه أيوب عليه السلام إلى التخلص من الحنث: بأن يأخذ بيده ضغثاً فيضرب به المرأة ضربة واحدة.. فأحسن المخارج ما خلص من المآثم، وأقبح الحيل ما أوقع في المحارم. (إعلام الموقعين عن رب العالمين 4/205).
قال الشاطبي: المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يَحمِل الناس على الوسط المعهود فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال. والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة.. بلا إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عنـد العلماء الراسخين..
وقـد رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون رضي اللّه عنه التبتل؛ وقال لمعاذ رضي اللّه عنه لما أطال بالناس الصلاة: أفتّان أنت يا معاذ؟.. ورد عليهم الوصال، وكثير من هذا.. ولأنه إذا ذهب بالمستفتي مذهب العنت والحرج بُغّض إليه الدين، وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة.. وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة. اهـ (الموافقات للشاطبي، 4/607-608).

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *