يزخر التاريخ بأخبار الرجال الذين ادّعوا معرفة الغيب والقدرة على التنبؤ بالمستقبل، والقليل من هؤلاء استطاع أن يصيب في بعض ما قاله دون مراعاةٍ للدقة في التفاصيل، أما أن يوجد في البشرية من يُخبر بعشرات من الأمور المستقبلية بأوصافٍ شاملة ودقّة مذهلة، بحيث يشهد الواقع على صحّة كل ما تنبّأ به دونما أخطاء، فذلك أمرٌ لا سبيل إلى معرفته أو الوصول إليه إلا بوحي من الله عزّ وجل، وهو ما جعل إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن الأحداث والوقائع التي كانت في حياته وبعد مماته وجهاً من وجوه الإعجاز.
فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن كثيرٍ من الأمور الغيبية التي أطلعه الله عليها في مناسباتٍ عديدة، كان أهمّها موقفه حينما قام بالناس خطيباً فأخبرهم بما هو كائن إلى يوم القيامة، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “قام فينا النبي -صلى الله عليه وسلم- مُقاما، فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه، ونسيه من نسيه” البخاري.
وتتنوّع النبوءات التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين البشارة باستشهاد عددٍ من أصحابه، والإخبار بتمكين هذه الأمة وظهورها على أعدائها، والتحذير مما سيحدث في الأمة من الافتراق والبعد عن منهج الله، والتنبّؤ بزوال بعض الممالك والدول من بعده وفتح البعض الآخر، والبيان لأشراط الساعة وما بين يديها من الفتن، وغير ذلك من الأخبار الصحيحة.
أما ما يتعلق باستشهاد عدد من أصحابه، فقد أخبر باستشهاد عمر بن الخطاب وعثمان بن عفّان رضي الله عنهما، وقال عن عمّار بن ياسر رضي الله عنه: (ويح عمار تقتله الفئة الباغية) البخاري، وأخبر عن مقتل قادة المسلمين الثلاثة في معركة مؤتة في اليوم الذي قُتلوا فيه رغم بعد المسافة وعدم وجود وسيلة لإبلاغ الخبر بهذه السرعة.
كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أسرع أزواجه لحوقا به أطولهن يدا، فكانت زينب رضي الله عنها لطول يدها بالصدقة، وأخبر أن ابنته فاطمة رضي الله عنها أول أهله لحوقا به، فتوفيت رضي الله عنها بعد أقل من ستة أشهر من وفاة أبيها.
وفي المقابل، أخبر صلى الله عليه وسلم بسوء الخاتمة لبعض من عاصره، كأمثال أمية بن خلف، وأخبر بمقتل أكابر قُريش في معركة بدر مبيناً مواضع قتلهم، فلم يجاوز أحدهم موضعه.
وأما ما يتعلّق بأحداث المستقبل، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالعديد منها، يأتي في مقدمتها الإخبار عن ظهور هذا الدين والتمكين له واتساع رقعته، فعن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض) مسلم.
ومن جملة ما أخبر به صلى الله عليه وسلم طاعون عمواس الذي حدث في الشام وكان سبباً في موت كثير من الصحابة، وكثرة المال واستفاضته كما حدث في زمن الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز.
ومن الأمور التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم الضعف والهوان الذي سيصيب الأمة من بعده وتكالب أعدائها عليها، فعن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)، فقال أحدهم: ومن قلةٍ نحن يومئذ؟ فقال لهم: (بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنّ الله في قلوبكم الوهن: حب الدنيا وكراهية الموت) وواقعنا اليوم خير شاهد على تحقّق ذلك.
ومما أخبر به كذلك، فتنة الخوارج من بعده وما اتصفوا به من شدّة العبادة والجهل في الدين، حتى أنه وصف أحد قادتهم بأن إحدى يديه مثل ثدي المرأة، فوجده الصحابة رضوان الله عليهم يوم النهروان مقتولاً، وتفاصيل هذا الخبر مذكورة في مسند الإمام أحمد .
وغير ذلك من أشراط السلعة، وتقارب الزمان، وتوالي الفتن حتى يصبح القابض فيها على دينه كالقابض على الجمر، وظهور النساء الكاسيات العاريات، وتطاول الحفاة الرعاة في البنيان، وتضييع الناس للأمانة، وتعاملهم بالربا، وإتيانهم للفواحش، واستحلالهم للخمر وتسميتها بغير اسمها، وانتشار قطيعة الرحم وسوء معاملة الجار، وتوالي الحروب، وكثرة الزلازل، وزيادة عدد النساء على الرجال، وادعاء ثلاثين رجلا للنبوة..
ورضي الله عن حسان بن ثابت إذ قال:
فإن قال في يومٍ مقالة غائب فتصديقها في صحوة اليوم أو في غد