الانتحار: الدوافع والأسباب محمد زاوي

 

 

1- الدوافع والأسباب العقلية والنفسية للانتحار

أولا: قابلية للانتحار يؤثر فيها العرق والوراثة

هناك قابليات للانتحار يؤثر فيها العرق والوراثة بشكل كبير(1)، مع اعتبار الفرق الضروري بين التأثير والإنتاج. فهناك صفات نفسية باطنية موروثة، قد لا تؤدي إلى الانتحار إذا تمّ ضبطها وتوجيها بوسائل عديدة نفسية واجتماعية. وبمجرد أن تدخل هذه الصفات في تفاعل مع المؤثرات المجهدة لها، حتى يكون احتمال تحولها إلى قابليات للانتحار كبيرا.

ثانيا: انتحار ناتج عن جنون كلي

وقد يكون الانتحار ناتجا عن اضطراب عقلي، فيكون إما “جنونا خاصا”، وإما “عارضا لنوع أو لعدة أنواع من الجنون، لا جنونا خاصا”. يقول أسكيرول: “لا يحاول الإنسان الانتحار إلا حين يصاب بالهذيان، لذا فإن المنتحرين مختلون عقليا”(2).

ثالثا: انتحار ناتج عن جنون جزئي

وقد ينتج الانتحار ميل إلى الانتحار، أي عن “جنون جزئي قاصر على فعل واحد ووحيد”، وهو جنون لا يظهر للناس والشهود، بل يكون عبارة عن “هوس أحادي” بفكرة أو ميل “يستحوذ بحدة بالغة على الذهن، ويجرده من الحرية”. ويكون الانتحار في هذه الحالة مفاجئا، لا يكتشف العامة مرض المقدم عليه إلا بعد اكتشاف انتحاره.

يكون هذا النوع من الانتحار “انتحارا هوسيا” تارة، ناتج عن “رغبة المريض في التخلص من خطر أو فضيحة متخيلة أو استجابة لأمر خفي تلقاه من أعلى”.

ويكون، تارة أخرى، “انتحارا ملانخوليا” ناتجا عن “كرب عميق (اكتئاب) يؤدي بالمريض إلى فقدان التقدير الصحيح للعلاقات التي تربطه بالناس والأشياء من حوله”.

وأخرى، يكون فيها “انتحارا وسواسيا” ناتجا عن “رغبة في الانتحار مجهولة الأسباب تستحوذ على المريض لمدة إلى أن ينتحر”. ويكون، في أخرى، “انتحارا اندفاعيا” يختلف عن السابق في كونه “نزوة مفاجئة، وليست طويلة الأمد، تستحوذ على المريض دون أن يكون قادرا على كبحها فورا”(3).

رابعا: أسباب نفسية كشف عنها التحليل النفسي

وهنا ينتج الانتحار عن تراكمات لرغبة الفرد في أن يَقتل (ماديا ومعنويا)، أو أن يُقتَل (ماديا ومعنويا). إن تلك العدوانية تجاه الغير، هي التي تنتج عدوانية الفرد تجاه ذاته. وأصل ذلك، من وجهة نظر سيغموند فرويد، هو فشل الإنسان في إبداع حل للتناقض الملازم له، بين غرائز الحياة وغرائز الموت، وبتعبير فرويد: بين “الأنا” و”الأنا الأعلى”. وهكذا يأتي تعريف فرويد للانتحار: “قتل النفس بعد الفشل في مواجهة غرائز الموت بغرائز الحياة”. (4)

وبغض النظر عن القابليات الوراثية، فإن ما يعتمل في النفس من عدوانية تجاه الغير، ثم تجاه الذات فيما بعد؛ هو يشكل بيئة سيكولوجية صالحة لإحداث الجنون العقلي بنوعيه: الكلي والجزئي. وقد رأينا، سابقا، أن هذا الجنون من أهم مسببات الانتحار.

 

2- الدوافع والأسباب الاجتماعية للانتحار

كل حديث عن الأسباب الاجتماعية للانتحار يجب أن يأخذ بعين الاعتبار:

– جغرافيا المجتمع، بمعنى “طبيعة المجتمع”.

– عمق المجتمع، بمعنى “طبيعة منطقة ما في المجتمع”.

– زمن المجتمع، بمعنى التحولات التاريخية للمجتمع.

– مكونات المجتمع، بمعنى الجماعات الدينية والعائلية والسياسية المكونة للمجتمع. (5)

فالأنانية وفقدان الأنا والفوضوية؛ كلها تحدث في جغرافيا وعمق وزمن وتكوين المجتمع، وليس خارج كل ذلك.

إن اعتزال المجتمع، والغربة الثقافية في حميلة اجتماعية ما، العزوف عن الزواج، وفشل مشروع الزواج، والعجز عن تخليف أبناء، والعيش في مجتمع أو نظام اجتماعي يلفظ أنفاسه الأخيرة، وسيادة رأي عام يشجع على الانتحار تحت أقنعة عدّة، وحدوث أزمات اقتصادية صادمة وغير متوقعة، ونشوب الفوضى في النظام العام المعهود… إلخ؛ هذه هي الأسباب التي تؤدي إلى الانتحار، ما لم يحسن المرء التعامل معها، كما ناقشها إميل دوركايم في كتابه “الانتحار” بكثير من النسبية.

لقد جمع دوركايم كل الأسباب المتفرقة أعلاه في ثلاثة أنواع:

– الاعتزال المفرط للمجتمع (“الجماعة الدينية” و”الجماعة العائلية” و”الجماعة السياسية”، بتعبير دوركايم)، وهو الذي يؤدي إلى “الانتحار الأناني”، بتعبير دوركايم.

– الاندماج المفرط في المجتمع، وهو الذي يؤدي إلى “الانتحار الغيري” كما يسميه دروكايم، أو “الانتحار الإيثاري” كما ورد عند الباحث طاوس وزاي.

الاضطراب في فوضى المجتمع، وهو الذي يؤدي إلى “الانتحار الفوضوي”، بتعبير دوركايم. (6: من ص 195 إلى ص 301)

قد لا يشكل الانتحار الناتج عن العجز عن تخليف أبناء ظاهرةً، إذا كان هذا العجز نادرا واستثنائيا. ويمكن قول الشيء نفسه بالنسبة لـ: الانتحار الناتج عن العزوف عن الزواج، والانتحار الناتج عن اعتزال المجتمع، وباقي أنواع الانتحار الأخرى المذكورة أعلاه. إلا أنها تشكل ظاهرة:

– إذا أصبحت متكررة أولا.

– وإذا كانت مفسَّرة ببناها التحتية العامة ثانيا.

فالغربة الثقافية لا يعرَف لها معنى إلا بثقافة غالبة تفرضها شروط تاريخية معينة، وبالتالي ظروف اجتماعية ما. والعزوف عن الزواج والعجز الجنسي وكثرة الطلاق وتراجع معدلات الخصوبة…؛ كلها أسباب للانتحار، يُفسّر تكرارها بالنظام الاجتماعي الذي تتكرّر فيه. والفوضى في النظام الجمعي (القانون والأعراف والأحكام والأخلاق ونمط العيش… إلخ)، تحدث عادة في مرحلة احتضار نظام اجتماعي قديم ومتهالك. وكذلك هي الأزمات الاقتصادية المتكررة، عادة ما تكون منبئة بتأزم النظام الاجتماعي الذي ينتجها.

3-الواقع الراهن على ضوء النظرية أعلاه:

أليس في مجتمعاتنا العربية (المجتمع المغربي خاصة) “جنون جزئي”؟ أليس فيها “جنون كلي” بنسب أعلى مما نظنه؟ أليس في مجتمعاتنا ما يدفع شبابنا إلى العزلة أو الاندماج أو الفوضى؟ إن فهم مجتمعاتنا بالنظرية أعلاه، أمر جد مركّب ومعقّد، وحسبنا هنا أن نخوض محاولة، لعلّنا نخرج منها بشيء.

هناك قول شائع بين علماء النفس والمحللين النفسانيين والأطباء النفسيين، مفاده: “كل الناس مرضى سيكولوجيا، ولكن بدرجات متفاوتة”. ولذلك، فإننا سنجد في مجتمعاتنا العربية حالات كثيرة من الجنون، بعضها كلي، وأكثرها جزئي. صحيح أننا لا نفطن لهذه الحالات، وذلك راجع لأسباب: تأخر الطب النفسي في مجتمعاتنا، ضعف انتشار الثقافة النفسية فيها، استيعاب حالات الجنوب الجزئي (بل والكلي أحيانا) في منظوماتنا الدينية والعائلية (بل والسياسية أحيانا)… إلخ. ولذلك، فإننا نعجز عن تفسير حالات الانتحار كلما وقعت، لأننا نعجز عن اكتشاف الحالات المرضية المؤدية لها بداية.

كل مجتمع من مجتمعاتنا العربية، بمختلف مكوناته الدينية، فهو “جماعة دينية”. قد تُخترَق هذه الجماعة بمكونات تخدم الأجنبي تحت أقنعة من الدين، ولكن هذه المكونات لا تخرج عموما عن منطق “الجماعة الدينية”، وهي التي تهمنا ما دمنا نتكلّم عن الانتحار. إن التماهي مع “الجماعة الدينية” غالبا ما يشكل مأمنا للفرد من “النزوع الانتحارية”، والسرّ كله في درجة التماهي مع تلك الجماعة. أما وقد اخترَقت مجتمعاتنا أفكارٌ “ما بعد حداثية”، تدخل في خصومة مباشرة مع “الجماعة الدينية” (استعادة التقليد)، فإن أصحاب هذه الأفكار يجدون أنفسهم “خلعاء” وفي عزلة قد تؤدي بهم إلى الانتحار، في حالة توفر القابلية لذلك لديهم.

إن هذا الانتحار يكون معنويا في البداية، فيشن “الخليع” حربا على محيطه وفكره القديم، ليشن في النهاية حربا على نفسه، فينتحر فكريا ونفسيا في العدمية. قد تجد هذه العدمية بعض مسوغات الحياة في نفس معتنقها، فتصبح له دينا جديدا. وقد لا يحصل ذلك، فيقع الانتحار الفعلي. تُعَدّ حالات الانتحار من هذا النوع نادرة في مجتمعاتنا، وذلك لأن العدمية غالبا ما تكون مرحلية وعابرة عند معتنقيها، وسرعان ما يتركونها إلى تدين وثقافة المجتمع (الانهزام أمام عقائد العجائز).

نفس الأمر يمكن قوله عن “الجماعة العائلية” في مجتمعاتنا، حيث لا يكون اعتزالها إلا نادرا، ولا يكون الانتحار الناتج عن هذا الاعتزال إلا كذلك. فالعزوف عن الزواج، وفشل مشروعه، والعجز عن تخليف الأبناء… إلخ؛ كلها حالات نادرة، لا تتكرر بشكل ملحوظ وملفت للانتباه. ولو أن حالات من هذا النوع، بدأت تظهر هنا وهناك، بفعل ما نعانيه من اختراق ثقافي وحرب معلَنة أجنبيا على “الأسرة والخصوبة والوالدية”، وبالتالي على “الأفواه”. قلنا: إن حالات الانتحار الناتجة عن اعتزال “الجماعة العائلية”، لم تتحول بعدُ إلى “ظاهرة”، بل إنها تبقى معزولة إلى حدود الآن.

بما أن الاضطرابات الاقتصادية والسياسية العالمية تنعكس على الواقع الاقتصادي والسياسي الداخلي، فإن المجتمع ككلّ يتأثر بها أيضا. وقد رأينا كيف أدى اضطراب النظام الاجتماعي العالمي إلى يأس سياسي وفوضى سياسية في العديد من الدول، كما أدى إلى أزمات اقتصادية وفاقة اجتماعية حادة لدى الطبقات الدنيا في مجتمعاتها. قد يؤدي اعتزال الفوضى السياسية إلى الانتحار عند توفر القابلية لهذا الأخير، وقد لا يؤدي إلى ذلك بالبحث عن مستقر يستوعب تلك الفوضى، وهذا ما يحدث للكثير من نخب وسياسيي وشباب المجتمعات العربية. أما الاضطرابات والأزمات الاقتصادية الفجائية، فهي كثيرا ما تنتج فاقة اجتماعية حادة، قد تدفع بصاحبها إلى الانتحار بشرط القابلية لذلك. وقد شهدت المجتمعات العربية انتحارات من هذا النوع الأخير، تزامنا مع الأزمات التي خلّفتها جائحة “كوفيد-19” إلا أنها بقيت معزولة ولم ترقَ إلى أن تصبح ظاهرة متكررة. مفسَّرة ببناها التحتية، ولا تتكرر لنطلق عليها “ظاهرة”.

وإذا أردنا أن نبحث عن بوادر لـ”الانتحار الغيري/الإيثاري” في مجتمعاتنا، فإننا لن نجدها، إلا في أندر ما ندر. وذلك، لأن مجتمعاتنا تشجع على الحياة وتعتبر الانتحار ذنبا ومعصية لا تغتفر. وهذا عكس المجتمعات التي تعتبر (أو كانت)أ الانتحار شرفا، أو تطبع مع الدعوات إليه.

الهوامش:

(1): إميل دوركايم، الانتحار، ترجمة: حسن عودة، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، 2011.

(2): نفسه، ص 26-27.

(3): نفسه، ص 28-29.

(4): راجع: “ما فوق مبدأ اللذة”، سيغموند فرويد.

(5):طاوس وازي، دراسة بعنوان “ظاهرة الانتحار بين التفسير الاجتماعي والتشخيص النفسي”.

(6): إميل دوركايم، نفس المرجع السابق، من ص 195 إلى ص 301.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *