عبثا يحاول العلمانيون والحداثيون التشكيك في النص القرآني من جهة مصدره وتاريخه ومراحل تدوينه، معتمدين على قلة الوعي لدى كثيرين في عالمنا الإسلامي بمخططاتهم التي توقن بأنه لن يكون لها وجود في كيانات مجتمعاتنا إلا بالقضاء على أقوى مؤسس لعقيدتنا وهويتنا وانتمائنا وثقافتنا وهو القرآن الكريم، وبالطبع فإن العمل على الوصول إلى هذه الغاية قد اتخذ أشكالا وصورا لم يكن منها بد لإحداث خلخلة في يقين المؤمنين بهذا الكتاب الخالد، ولم تكن هذه الصور بعيدة عن المناهج الغربية التي تعامل بها الغربيون مع “الكتاب المقدس”، حيث وصلوا من خلال تطبيقهم لها إلى نتائج باهرة قطعت بأن هذا الكتاب لم يكتب في عهد أنبيائه، وبأنه قد تأثر بثقافات عصر كتابته، ولقد فرحوا بالوصول إلى هذه النتائج في إثر إخضاع الكتاب المقدس لمنهج النقد.
هنا ظن بعض الغربيين ومن تأثروا بهم من أبناء جلدتنا، ممن اتشحوا بوشاح العلمانية أو التنوير والحداثة، ظنوا أن بإمكانهم الوصول إلى نفس النتائج مع القرآن الكريم وهو الأمر الذي أعلن فشله كثير من الغربيين ومنهم المستشرق الإنجليزي “آربرى” وكذا المستشرق السويدي “تور أندريه” مؤلف كتاب “محمد: حياته وعقيدته” وغيرهما، ومع هؤلاء كامل الحق لأن القرآن الكريم قد ثبت يقينا وبطرق التواتر المفيدة للعلم الضروري ثبت توثيق هذا الكتاب وحفظه صدرا، وتدوينه كتابة في عهد صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم، ولم يكن ذلك منذ عهد بعيد منا فألف وأربعمائة سنة في عمر الزمن شيء يسير بالإضافة إلى هذه الخصوصية التي لم تتوفر لأي نص آخر على الإطلاق من التداول الشفهي لهذا الكتاب الخالد من لدن عهد النبي صلى الله عليه وسلم وإلى عصرنا الحاضر، طبقة عن طبقة، وجمعا عن جمع، تحيل العادة تواطؤهم على الكذب.
نظرية تاريخية النصوص
إن مسألة تاريخانية أو تاريخية القرآن مسألة طلعت في زي الحداثة المزخرف المنمق من تحت قرن شيطان الاستشراق فلاكها بألسنتهم مقلدوهم من بعض مثقفي المسلمين عامداً بعضهم إلى ما تأتي به من العاقبة السيئة، وغير عابئ بعضهم الآخر بمغبتها المشؤومة التي أقلها زعزعة عقيدة بعض المسلمين وإضعاف ثقتهم بالقرآن الكريم، وهو الهدف الفريد الذي يسعى إليه بكدح بالغ المستشرقون وأذنابهم.
أهم أهداف النظرية
إن أهم أهداف التاريخانية هو الإبانة عن أن القرآن أضحى قديماً مع الزمن وأبلاه كر الليالي وأخلقه مر العصور؛ حيث كان كتاباً تاريخانياً خاطب كتلةً محدودةً من البشر في قطاع خاص من التاريخ والزمن، وكان في مستطاعه في تلك الأزمنة المحدودة تقديم حلول نافعة لتلك الكتلة الخاصة في ذلك القطاع الخاص.
وأما بعد الذي حدث من ثورات عظيمة في معظم جوانب حياة الإنسان الفردية والاجتماعية والإدارية والسياسية والاقتصادية وغيرها فلم يبق القرآن بدوره التاريخاني قادراً على الإيفاء بتقديم حلول فاضلة صالحة للمجتمعات البشرية في جميع جوانب حياتها!
هذا هو ما يستهدفه أولئك الظالمون! فإذاً الهدف اللئيم الأثيم لهذه الخطة غير الرشيدة هو إقصاء القرآن بدوره الفاعل عن جميع نواحي الحياة، ولا يخفى أن هدفهم أن يجعلوا رسالة الإسلام والقرآن عبارة عن أمور أخلاقية وجدانية، في دائرة ضيقة لا صلة لها بتوجيه الحياة العامة، وهذه الصورة الشوهاء المختلقة عن رسالة القرآن التي يمليها الاستعمار الغربي والتنصير العالمي على عملائه من دعاة العلمنة هي نفس كيان النصرانية التي باءت بالإخفاق والبوار، لا في الإصلاح الجماعي فقط، بل حتى في الحفاظ على وجودها الذاتي أيضاً في صميم بلادها، وكفاها ذلاً وهواناً لها ولأبنائها!
شبهات يلبس بها أدعياء الحداثة لإمرار النظرية
من الأمثلة التي سيقت وتساق من قبل دعاة تاريخية النصوص للتدليل على ضرورة تطبيق هذه التاريخانية -في زعمهم- على أحكام القرآن الكريم في المعاملات المتعلقة بميراث المرأة وشهادتها مثلا.
ونحن عندما ننظر في هذه الأمثلة نزداد يقينًا بضلال دعاة تطبيق هذه النظرية على القرآن الكريم، وعلى الأحكام التشريعية الواردة فيه.. فليس صحيحًا أن توريث المرأة في الإسلام قد جانب الإنصاف لها، حتى يكون حكمه صالحًا للزمان الماضي دون الزمان المعاصر والمستقبل.. فالأنثى في الإسلام لا ترث نصف الذكر دائمًا وأبدًا.. والقرآن لم يقل يوصيكم الله في الوارثين للذكر مثل حظ الأنثيين.
وإنما جعل ذلك في حالة بعينها هي حالة “الأولاد”، وليس في مطلق وكل الوارثين: “يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ” (النساء). أما عندما كان التقعيد عامًا للميراث فإن القرآن قد استخدم لفظًا عامًا هو لفظ “النصيب” لكل الذكور والإناث على حد سواء: “لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً” (النساء).
وهذه الحقائق في المواريث الإسلامية وغيرها -التي يجهلها ويتجاهلها العلمانيون دعاة تاريخية آيات الميراث- هي التي جعلت المرأة في الميراث ترث مثل الرجل، أو أكثر من الرجل، أو ترث ولا يرث الرجل في أكثر من ثلاثين حالة من حالات الميراث، بينما هي ترث نصف ما يرث الذكر في أربع حالات فقط.
لو فقه الداعون إلى تاريخية القرآن حقيقة هذه الأحكام التي توهموا الحاجة إلى تجاوزها لأدركوا أن وقوف النص القرآني عند كليات وقواعد التشريع، مع ترك تفصيلات التشريع لاجتهادات الفقهاء، هو الذي جعل أحكام القرآن الكريم في المعاملات -فضلاً عن العبادات.. والقيم والأخلاق- مصلحة لكل زمان ومكان، فكانت شريعته آخر وخاتم الشرائع السماوية، دونما حاجة إلى هذه “التاريخية” التي استعاروها من الفكر الغربي، دونما إدراك لخصوصية النص الإسلامي، ولو أنهم فقهوا حقيقة الأمثلة التي توهموها دواعي لهذه التاريخية من مثل ميراث المرأة.. وشهادتها.. لكفونا مئونة هذا الجهد في كشف هذه الشبهات.