“هناك من العوالم ما تعتبر مجهولة تماما للإنسان فهي ليست من ذات العوالم التي يستطيع أن يصل إليها بأساليبه التي يعرفها، وهي ليست بالصورة التي يعهدها، إنها عوالم مجهولة، ومن ضمن هذه العوالم المجهولة: عالم الجن وعالم الملائكة، وإن العلم إذ بدا يثبت وجود هذه العوالم فإنه لا سبيل عنده حتى الآن لأن يعرف عنها المزيد، وإن القرآن الكريم قد تكفل -سابقا العلم بعشرات المئات من السنين- ببيان هذه العوالم..
والجن عالم غير عالم الإنسان وعالم الملائكة، بينهم وبين الإنسان قدر مشترك من حيث الاتصاف بصفة العقل والإدراك، ومن حيث القدرة على اختيار طريق الخير والشر، ويخالفون الإنسان في أمور أهمها أن أصل الجان مخالف لأصل الإنسان. (عالم الجن والشياطين للدكتور عمر الأشقر).
الجِنُّ: ضد الإنس، والواحد جِنِّيٌّ، سميت بذلك لأنها تتوارى عن الأنظار ولا تُرى.
أما الشياطين: فجمع شَيطانُ، وهو كل عاتٍ متمرد سواء من الإنس أو الجن أو الدواب، وعليه فالشياطين ليسوا سوى عتاة الجن ومردتهم.
قال ابن عقيل: إنما سمي الجن جنا لاستجنانهم واستتارهم عن العيون، وسمي الجنين جنينا والجُنَّة للحرب جنة لسترها، والمجن مجنا لستره للمقاتل في الحرب.
وقال الجوهري: كل عات من متمرد من الجن والإنس والدواب شيطان.
قال ابن عبد البر رحمه الله: “الجن عند أهل الكلام والعلم باللسان منزلون على مراتب: فإذا ذكروا الجن خالصا قالوا: جني.. فإن أرادوا أنه ممن يسكن مع الناس، قالوا: عامر والجمع عمّار وعوامر.. فإن كان ممن يعرض للصبيان، قالوا: أرواح.. فإن خبث وتعزم فهو شيطان.. فإن زاد على ذلك فهو: مارد.. فإن زاد على ذلك وقوي أمره، قالوا: عفريت، والجمع: عفاريت والله أعلم بالصواب”.
قال إمام الحرمين في كتاب الشمائل: “اعلموا رحمكم الله أن كثيرا من الفلاسفة وجماهير القدرية وكافة الزنادقة أنكروا الشياطين والجن رأسا، ولا يبعد لو أنكر من لا يتدبر ولا يتشبث بالشريعة وإنما العجب من إنكار القدرية مع نصوص القرآن وتواتر الأخبار واستفاضة الآثار”، ثم ساق جملة من نصوص الكتاب والسنة، وقال: “ودلَّ إنكارهم إياهم على قلة مبالاتهم وركاكة دياناتهم، فليس في إثباتهم مستحيل عقلي وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على إثباتهم، وحق على اللبيب المعتصم بحبل الدين أن يثبت ما قضى العقل بجوازه ونص الشرع على ثبوته”.
قال القاضي أبوبكر الباقلاني: “وكثير من القدرية يثبتون وجود الجن قديما وينفون وجودهم الآن، ومنهم من يُقرُّ وجودهم الآن ومنهم من يقر بوجودهم ويزعم أنهم لا يرون لرقة أجسامهم ونفوذ الشعاع فيها، ومنهم من قال: إنما لا يرون لأنهم لا ألوان لهم، ثم قال إمام الحرمين: (والتمسك بالظواهر والآحاد تكلف مع إجماع كافة العلماء في عصر الصحابة والتابعين على وجود الجن والشياطين، والاستعاذة بالله تعالى من شرورهم، ولا يراغم مثل هذا الاتفاق متدين متشبث بمسكة من الدين”، ثم ساق عدة أحاديث وقال: “فمن لم يرتدع بهذا وأمثاله فينبغي أن يتهم في الدين ويعترف بالانسلال منه، على أنه ليس في إثبات الشياطين ومردة الجن ما يقدح في أصل من أصول العقل وقضية من قضاياه، وأكبر ما يستروحون إليه حضور الجن بنا ونحن لا نراهم ولو شاءت أبدلت لنا أنفسها، وإنما يستبعد ذلك من لم يحط علما بعجائب المقدورات، وقولهم في الجن يجرهم إلى إنكار الحفظة من الملائكة عليهم السلام ومن انتهى بهم المذهب إلى هذا وضح افتضاحه”.
قال الشيخ أبو العباس شيخ الإسلام بن تيمية: “لم يخالف أحد من طوائف المسلمين وجمهور طوائف الكفار على إثبات الجن، أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهم مقرون بهم كإقرار المسلمين، وإن وجد فيهم مَن ينكر ذلك فكما يوجد في بعض طوائف المسلمين كالجهمية والمعتزلة مَن ينكر ذلك، وإن كان جمهور الطائفة وأئمتها مُقرُّون بذلك، وهذا لأن وجود الجن تواترت به أخبار الأنبياء عليهم السلام تواترا معلوما بالاضطرار، إنهم أحياء عقلاء فاعلون بالإرادة مأمورون منهيون ليسوا صفات وأعراضا قائمة بالإنسان وغيره كما يزعمه بعض الملاحدة، فلما كان أمر الجن متواترا عن الأنبياء عليهم السلام تواترا ظاهرا يعرفه العامة والخاصة، لم يكن طائفة من طوائف المؤمنين بالرسل أن ينكرهم..”.
ذكر ابتدائهم ومادة خلقتهم
خلق الله عز وجل الجن قبل أن يخلق الإنس بمدة لا يعلم زمنها إلا الله عز وجل حيث يقول جل شأنه: “وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ، وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ” الحجر، وهذه القَبْليَّة معناها الفترة الزمنية التي عمر وسكن فيها الجن كوكب الأرض قبل الإنسان، وقال سبحانه وتعالى كذلك: “وَمَا خَلَقْتُ وَالْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ” الذاريات.
قال الألوسي رحمه الله تعالى: “ولعل تقديم الجن في الذكر لتقدم خلقهم على خلق الإنس في الوجود” (روح المعاني).
أما مادة خلقهم فهي النار، بدليل لقوله تعالى: “وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ” (الحجر) وسميت نار السموم: لأنها تنفذ في مسام البدن لشدة حرها، وقال تعالى: “وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ” (الرحمن)، والمارج أخص من مطلق النار لأنه اللهب الذي لا دخان فيه، وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم”.
ولا يخفى أن خلق الجان من نار لا يلزم منه أن أشكالهم وهيئاتهم كالنار، فالبشر خلقوا من تراب وليسوا كذلك، ولكن يؤخذ منه أن في الجن صفات من صفات النار كالخفة واللطافة، مثلما للبشر من صفات التراب كالثقل والكثافة.
قال رسول صلى الله عليه وسلم: “الجن ثلاثة أصناف، فصنف لهم أجنحة يطيرون بها في الهواء، وصنف حيات وكلاب، وصنف يحلون ويظعنون). (صحيح الجامع 3114).
وجنس الجن كجنس الإنس فيهم الذكور والإناث، يأكلون ويشربون.. قال تعالى: “وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً” (الجن). وفي حديث زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا أتى أحدكم الخلاءَ فليقل: اللهم إني أعوذ بك من الخُبُث والخَبَائث” (والخُبُث بضم الخاء والباء: ذكور الجن، والخبائث: إناثهم)،
وقد أثار البعض سؤالاً قديماً وهو أنه: إذا كان الجن قد خلقوا من النار، فكيف يعذبون بها؟
وأجاب عن ذلك ابن عقيل في كتابه “الفنون” فقال: “اعلم أن الله تعالى أضاف الشياطين والجن إلى النار حسب ما أضاف الإنسان إلى التراب والطين والفخار، والمراد به في حق الإنسان أن أصله: الطين، وليس الآدمي طينا حقيقة، ولكنه كان طينا، كذلك الجان كان ناراً في الأصل، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: “عرض لي الشيطان في صلاتي فخنقته حتى وجدت برد لعابه على يدي” ومن يكون ناراً محرقةً كيف يكون لعابه أو ريقه بارداً أو له ريق أصلا!!
ومما يدل على أن الجن ليسوا بباقين على عنصرهم الناري؛ قول النبي صلى الله عليه وسلم: “إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي” وبيان الدلالة منه؛ أنهم لو كانوا باقين على عنصرهم الناري..؛ لما احتاجوا إلى أن يأتي الشيطان أو العفريت منهم بشعلة من نار، ولكانت يد الشيطان أو العفريت أو شيء من أعضائه إذا مس ابن آدم أحرقه، كما تحرق الآدمي النار الحقيقية بمجرد المس” ا.هـ، وبهذا يعلم أنه كما يتأذى الإنسان من ضربه بالطين والحجر، مع أنه خلق من طين، فإن الجن يتأذون ويحترقون بالنار مع أنهم خلقوا منها.
هذه نصوص ونقول مستقاة من كلام علماء الإسلام المعتبرين تغنينا عن الخوض والبحث في عالم الجن بطرح احتمالات وافتراضات تمزق فكر الإنسان وتشتته، لأن هذه المسألة من القضايا التوقيفية التي لا مجال للاجتهاد فيها ومن المسائل الغيبية التي لا مجال لخوض العقل فيها..