الفهم الصحيح لقوله سبحانه وتعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} يقطع بإنصاف الإسلام وعدله بين الذكر والأنثى.
في البداية نود أن نقول لهؤلاء الذين يحلو لهم أن يرددوا أن الإسلام جعل حق المرأة نصف حق الرجل في الميراث: لقد غاب عنكم أن أصحاب الديانات السابقة عن الإسلام لا يجعلون للبنت ميراثا إذا كان لها إخوة من الذكور، كما أن المجتمعات التي لا دين لها تحرم المرأة من الميراث، فجاء الإسلام وأعطى المرأة حقها، قال سبحانه وتعالى: )للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا( (النساء:7) (المرأة بين الإسلام والقوانين العالمية، المستشار سالم البهنساوي).
وقال الله سبحانه وتعالى أيضا: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} (النساء:11).
ففي هذه الآية يأمر الله الوالدين بالوصية لأولادهم، توجيها منه برعاية البنات، إذ كانت القاعدة حرمانهن من الميراث، وقد أساء بعض الناس فهم هذه الآية الكريمة؛ فظنوا أن الإسلام قد ميز الرجل عن المرأة، ولكننا إذا أمعنا النظر في هذه الآية الكريمة وفي أسباب نزولها، وفي تفسيرها -كما فهمها علماء المسلمين- تبين لنا مدى عدالة الإسلام في معاملة المرأة والرجل وعدم التمييز بينهما.
لقد نزلت هذه الآية الكريمة -كما يقول القرطبي- في أوس بن ثابت الأنصاري الذي توفي وترك امرأة يقال لها: أم كجة وثلاث بنات له منها، فقام رجلان -هما ابنا عم الميت ووصياه- يقال لهما: سويد وعرفجة، فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته وبناته شيئا، وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير، وإن كان ذكرا، ويقولون: “لا نعطي إلا من قاتل على ظهور الخيل، وطاعن، وضارب بالسيف، وحاز الغنيمة”.
فجاءت أم كجة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشكت إليه استيلاء ابني العم على التركة، وترك البنات بدون شيء مما ترك والدهن، وأضافت قائلة: ولا ينكحن إلا ولهن مال. فدعاهما الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقالا: يا رسول الله، ولدها لا يركب فرسا، ولا يحمل كلا، ولا ينكأ عدوا. فقال صلى الله عليه وسلم: “انصرفا حتى أنظر ما يحدث الله فيهن”.
فأنزل الله -سبحانه وتعالى- هذه الآية: {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا} (النساء7).
فأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى سويد وعرفجة: “ألا تفرقا من مال أوس شيئا، فإن الله جعل لبناته نصيبا، ولم يبين كم هو، حتى أنظر ما ينزل ربنا”، فنزلت آيات المواريث الثلاث من قوله سبحانه وتعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}. إلى قوله سبحانه وتعالى: {وذلك الفوز العظيم} (النساء13)، فأرسل الرسول -صلى الله عليه وسلم- إليهما: “أن أعطيا أم كجة الثمن مما ترك، والبنات الثلثين، ولكما بقية المال” الجامع لأحكام القرآن.
وقد جاء عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أنها نزلت في امرأة سعد بن الربيع، حيث «جاءت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بابنتيها من سعد فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك في أحد شهيدا، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا، ولا تنكحان إلا ولهما مال. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: “يقضي الله في ذلك”. فنزلت آية الميراث، فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عمهما فقال: “أعط ابنتي سعد الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي فهو لك» أخرجه أحمد في المسند والترمذي في سننه، وحسنه الألباني في الإرواء (1677). الحقوق العامة للمرأة، صلاح عبد الغني محمد.
وفي بيان معنى الآية يقول الطاهر بن عاشور: لقد بدأ الله تعالى بميراث الأبناء لأنهم أقرب الناس… وجملة: {للذكر مثل حظ الأنثيين} بيان لجملة: {يوصيكم}؛ لأن مضمونها هو معنى مضمون الوصية، فهي مثل البيان في قوله سبحانه وتعالى: {فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم} (طه:120).
وتقديم الخبر على المبتدأ في هذه الجملة للتنبيه من أول الأمر على أن الذكر صار له شريك في الإرث وهو الأنثى؛ لأنه لم يكن لهم به عهد من قبل إذ كان الذكور يأخذون المال الموروث كله ولا حظ للإناث.
وقوله: {للذكر مثل حظ الأنثيين} جعل حظ الأنثيين هو المقدار الذي يقدر به حظ الذكر، ولم يكن قد تقدم تعيين حظ الأنثيين حتى يقدر به، فعلم أن المراد تضعيف حظ الذكر من الأولاد على حظ الأنثى منهم… وأوثر هذا التعبير لنكتة لطيفة وهي: الإيماء إلى أن حظ الأنثى صار في اعتبار الشرع أهم من حظ الذكر، إذ كانت مهضومة الجانب عند أهل الجاهلية، فصار الإسلام ينادي بحظها في أول ما يقرع الأسماع، فعلم أن قسمة المال تأخذ في الاعتبار عدد البنين والبنات. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، 3/257. (موسوعة بيان الإسلام).