رفع الملام عن الأئمة الأعلام.. تأليفا للقلوب وإنصافا للمخالف ذ. طارق الحمودي

إن الدعوة إلى كلمة جامعة سواء بين المختلفين من أهل العلم والإيمان، كفيلة بالتخفيف من شدة وطأة الخلاف على الأمة، وكافية لضبط الأهواء على بوصلة الحق، حتى نكون في مواقفنا عبادا لله تعالى، فنخرج من سجن الأغراض إلى سعة الأخوة في الله، مع التزام النصح لعامة المسلمين وخاصتهم، وحفظ أعراضهم وموالاتهم على أعدائهم.

كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على تنبيه أمته من آفة الاختلاف وما يؤول إليه الأمر بعده من التخاصم بل والتقاتل، وكان حرصه أكثر في بيان وجوب ترشيد الخلاف وتوجيهه للتخفيف من ضرره، وكان من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: “إذا اجتهد الحاكم ….”، فهو صريح في وجوب رفع الملام عن الأئمة الأعلام عند خطئهم الذي يطرأ بعد اجتهاد.
وقد راعى علماؤنا العقلاء هذا في أدبياتهم ودروسهم العلمية المختلفة، سواء كان ذلك في الدرس الأصولي أو الفقهي، بل وأعلى من ذلك، واستمر عملهم على ذلك دفعا في وجه الخصومة، لكن شذ عن هذا أفراد وجماعات، وآل بهم الحال في الخلاف إلى خصومات رفعت فيها السيوف، وأرخيت فيها الأعنة للألسنة بالسوء، ونتج عن ذلك ضعف عام، وفساد ذات البين، وكادت الريح أن تذهب لولا أن الله تعالى أقام الحجة ببيان المحجة، وقام علماء كبار يحرضون الناس على الدفع في وجه خلاف الفرقة والحالقة، فعافى الله بهم جزء من تاريخ الأمة، وحفظ بهم وبما نظروا له ومارسوه أس الآداب الشرعية والأخلاق الإسلامية في باب الاختلاف.
سأختار واحدا من هؤلاء، ممن رمي بغير ما عاش عليه، واتهم بدم كذب، وهو شيخ الإسلام ابن تيمية، وقصدي أن يتعرف المخالف له قبل الموافق ما ناله من إساءة بليغة، وما كان في ذلك من تفويت ظاهر لفرصة تاريخية ثمينة للتأليف بين مجموعات مسلمة من المؤمنين.
كان ابن تيمية صريحا وواضحا في رد موقفه إلى إيمانه ودينه، فإنه قال في الفتاوى: “نعوذ بالله سبحانه مما يفضي إلى الوقيعة في أعراض الأئمة أو انتقاص لأحد منهم أو عدم المعرفة بمقاديرهم وفضلهم أو محادتهم وترك محبتهم وموالاتهم ونرجو من الله سبحانه أن نكون ممن يحبهم ويواليهم ويعرف من حقوقهم وفضلهم ما لا يعرفه أكثر الاتباع وأن يكون نصيبنا من ذلك أوفر نصيب وأعظم حظ ولا حول ولا قوة إلا بالله”، فقد كانت القاعدة عنده -كما في منهاج السنة- أن “الكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل لا بظلم وجهل كحال أهل البدع”.
كان ابن تيمية يسترشد بقواعد الأخوة الإيمانية القاضية بحفظ العرض والموالاة ومعرفة الفضل، ضابطا ذلك بشرطية العلم والعدل، وكان الخروج عن كل ذلك عنده يعني الوقوع في طريقة أهل البدع في معاملة المخالفين، ولذلك كان يمنع من جعل الخطأ موجبا للعيب والمقت، إذ يقول: “من جعل كل مجتهد في طاعة أخطأ في بعض الأمور مذموما معيبا ممقوتا فهو مخطئ ضال مبتدع”.
كان ابن تيمية يسلك في ذلك مسلك عدل وإنصاف، بل منهجا علميا آمنا، فكان المقصود عنده محاكمة الفكر لا أصحابه غالبا، فالذي يهمه انتقاد المعتقدات والاجتهادات، بعيدا عن محاكمة أصحابها، إذ كان يعلم أن الدخول في ذلك يقحم الداخل في متاهات الظلم والقول على الناس بغير علم، ولذلك تجده يقف عند المقالات لا القائلين، فيسفه ويصحح، ويرد ويوجه، مع توقير ظاهر لمن ينتقدهم، ومنهم أشاعرة وصوفية وأتباع مذاهب ممن قد يكون معروفا بالتقليد والتعصب، فاستمع إليه يقول في الأشاعرة: “ومن العلماء مثل أبي المعالي الجويني، فصاروا بما يقيمونه من السنة ويردونه من بدعة هؤلاء (يقصد الباطنية) ونحوهم لهم من المكانة عند الأمة بحسب ذلك، وكذلك المتأخرون من أصحاب مالك الذين وافقوه كأبي الوليد الباجي والقاضي أبي بكر ابن العربي ونحوهما لا يعظمون إلا بموافقة السنة والحديث…”.
هذا مع بيانه لما يراه خطأ منهم، وأوضح من هذا قوله فيهم: “فإن الواحد من هؤلاء له مساع مشكورة في نصر ما نصره من الإسلام والرد على طوائف من المخالفين لما جاء به الرسول، فحمدهم والثناء عليهم بما لهم من السعي الداخل في طاعة الله ورسوله، وإظهار العلم الصحيح الموافق لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والمظهر لباطل من خالف الرسول، وما من أحد من هؤلاء ومن هو أفضل منه إلا وله غلط في مواضع”.
إن الدعوة إلى كلمة جامعة سواء بين المختلفين من أهل العلم والإيمان، كفيلة بالتخفيف من شدة وطأة الخلاف على الأمة، وكافية لضبط الأهواء على بوصلة الحق، حتى نكون في مواقفنا عبادا لله تعالى، فنخرج من سجن الأغراض إلى سعة الأخوة في الله، مع التزام النصح لعامة المسلمين وخاصتهم، وحفظ أعراضهم وموالاتهم على أعدائهم.
وأختم بكلمة جميلة أخرى لشيخ الإسلام ابن تيمية في بيان موقف العالم المؤمن مما يراه زلة عند غيره، خصوصا إن كان من الكبار، وأن الموقف من ذلك نابع من أصول العدل والعلم، ونصها: “وإنما يضيق عن ذلك أحد رجلين رجل جاهل بمقاديرهم ومعاذيرهم، أو رجل جاهل بالشريعة وأصول الأحكام، وهذا المقصود يتلخص بوجوه أحدها، إن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكانة عليا قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور بل مأجور لا يجوز أن يتبع فيها مع بقاء مكانته ومنزلته في قلوب المؤمنين”.
كان هذا موقف ابن تيمية من الأشاعرة في موضع الإنصاف، خلاف ما فعله طائفة منهم، حين سعوا إلى سجنه فسجن، بل سعوا إلى قتله فلم يظفروا منه بذلك، فلما انقلب الأمر، وتمكن منهم عفا عنهم، فقد كان الرجل صادقا فيما ينظر له، إذ كان الأمر يتجاوزه إلى الممارسة رحمه الله، وبهذا تنتهي الصورة التي قصدت جمعها من أدبيات ابن تيمية ومواقفه، عساها تكون معلما من معالم الإنصاف بين أهل العلم والإيمان كما كان يحلو له أن يصفهم، والحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *