..إن هؤلاء العلمانيين لا يعتبرون الدين مقدسا ولا يعتقدون العصمة في الوحي، فحتى لو كان الخمر مثلا محرما في الشريعة الإسلامية المنزلة من عند الله سبحانه، فإنهم يرون أنه بوسعهم انطلاقا من المرجعية العالمية لحقوق الإنسان أن يتجاوزوا هذا الأمر ويغيروا هذا الحكم، باعتباره حرية فردية محمية بالشرائع الدولية، وقس على ذلك.
جميل جدا أن يدافع المرء عن الحرية ويسعى إلى إرساء مبادئها، وتشييد صرحها، وإيصال منافعها إلى الناس، ففي سبيل التمتع بالحرية قامت ثورات وحروب، وسجن خلق كثير وأعدم آخرون، لكنه يجب علينا ابتداء أن نحدد مفهوم الحرية التي ندافع عنها، أهي الحرية التي حدد مفهومها جون ستيوارت مل حين قال أن الناس: “أحرار فيما يفعلون شريطة ألا يؤدي تصرفهم إلى إلحاق الأذى بالآخرين”، أم هي الحرية التي تقتضيها كلمة التوحيد “لا إله إلا الله” بنفي جميع أنواع العبودية والخضوع لغير الله عز وجل، ومنع اتخاذ أرباب دون الله سبحانه {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ}.
يبدو لنا جليا من خلال ما يجري على الساحة العربية والوطنية أن جل المدافعين عن الحقوق والحريات يتبنون المفهوم الأول للحرية، ولا تهمهم أبدا مخالفة الثوابت ولا الدين ولا القيم ولا التاريخ ولا الأعراف ولا ولا..، وما عجزوا عن إسقاطه وتغييره اليوم أرجئوه إلى غد، وراوغوا ونافقوا وزينوا العبارات حتى يحين الوقت المناسب لتحقيق الهدف المنشود.
فجوابا على السؤال الذي وجهته إحدى اليوميات الوطنية إلى خديجة الرويسي رئيسة جمعية بيت الحكمة فيما يخص مطالبتها في يوم من الأيام بدولة مغربية علمانية؟ أجابت: “يجب أن تعرف أن لدينا خصوصية إمارة المؤمنين في المغرب والتي تجيب عن حاجة روحية أساسية وحضارية في المغرب، ويجب أن نعرف أن العلمانية ليست هي نفسها في جميع الدول، ونحن يجب علينا أن نبحث عن شكل جديد من أشكال العلمانية يراعي الخصوصيات المغربية، وهذا يجب أن يطرح للنقاش ليقدم الجميع آراءه ووجهات نظره”.
ترى لماذا اختلفت لهجة خطاب رئيسة جمعية بيت الحكمة في هذا الاستجواب وخفضت من حدتها حينما تعلق الأمر بالدعوة الصريحة إلى علمنة المغرب؟ حيث فهمت الرويسي مباشرة من خلال السؤال أن تصريحها بالمطالبة بقيام دولة علمانية في المغرب يعني المساس المباشر بإمارة المؤمنين التي تستمد شرعيتها كما هو معلوم من الشريعة الإسلامية، فولي الأمر في المغرب ينصب ملكا للبلاد بعد عقد البيعة الشرعية له، الملزمة لجميع من يقع تحت حكمه بالولاء والطاعة.
فالرويسي لم تتوان من قبل في الطعن في منظومة القيم والأخلاق والهوية حتى لو كانت مستمدة من الشريعة الإسلامية ذاتها، فصرحت بأن: “لا مجال للسعي إلى محاولة تنميط جميع أعضاء المجتمع في نموذج قيمي وحيد ونهائي مهما كانت طبيعته أو مصدره”، أي حتى وإن كان وحيا من عند الله.
وهو الكلام نفسه الذي صرح به الأمازيغي العلماني المتطرف عصيد حين قال: “الإسلام ليس هو الدين الوحيد الذي ينبغي أن يتبع، ولا دين مقدس حتى يستحيل تغيير ورفض شرائعه”، وصرح به غيرهما أيضا.
بمعنى أن هؤلاء العلمانيين لا يعتبرون الدين مقدسا ولا يعتقدون العصمة في الوحي، فحتى لو كان الخمر مثلا محرما في الشريعة الإسلامية المنزلة من عند الله سبحانه، فإنهم يرون أنه بوسعهم انطلاقا من المرجعية العالمية لحقوق الإنسان أن يتجاوزوا هذا الأمر ويغيروا هذا الحكم، باعتباره حرية فردية محمية بالشرائع الدولية، وقس على ذلك.
بذلك نفهم السبب الكامن وراء مصادرة العلمانيين لحرية كل مغربي يرفض مشروعهم، ولماذا يكبحون بالأقلام والأحزاب والقوة والسلطة كل صوت يرفع مطالبا بضرورة إلزام الناس بأداء فريضة الصلاة، واستصدار قانون يعاقب تاركها على غرار القانون المجرم للمجاهر بإفطار رمضان، ومعاقبة المرتدين عن الإسلام وعدم غض الطرف عنهم تحت أي إكراه، وتفعيل قانون تجريم بيع الخمر للمسلمين.. متهمين إياه بمحاولة إحياء الدولة الدينية ومحاربة الدولة المدنية والمشروع الحداثي.