الأصل في علاقة الدولة العثمانية بالأرمن كان الحماية وتوفير الفرصة، وكان السلطان محمد الفاتح هو أول من أحضر الأرمن إلى أروقة الدولة العثمانية وقياداتها السياسية، وكانت الدولة العثمانية والشعب التركي يسمون الأرمن «ملتي صادقات» أي «الملة الصادقة» وهو بالطبع وصف إيجابي لا يستقيم معه أن هذا الوجود الذي استمر لعشرات العقود يمكن أن ينتهي فجأة بمشروع إبادة؛ كما يدعي بعضهم.
كان الأرمن جزء من الدولة العثمانية التي عرفت دولياًً بالتسامح ووجود عدد كبير من الأعراق والمذاهب والملل ضمن بنيتها التنظيمية والاجتماعية. ومع ظهور علامات انهيار وتفتت الدولة العثمانية تحت ضربات الحصار الأوروبي والروسي لها، وعدم قدرتها على الحفاظ على أراضيها؛ بدأت الكثير من الأقليات في الانفصال عن الدولة، وانتشرت المكائد الأوروبية ضد الدولة العثمانية بشكل لم يسبق له مثيل، وهو ما أسفر لاحقاً عن تنحية السلطان، وظهور حركة الاتحاد والترقي بديلاً للخليفة، وكانت في ذلك حركة قومية تريد الحفاظ على ما تبقى من الدولة العثمانية فيما تحول لاحقاً إلى تركيا المعاصرة.
كان بعض المتعصبين من الأرمن من ذوي الميول الانفصالية والقومية يساهمون في خلخلة الكيان الداخلي للدولة العثمانية من خلال المكائد والتخابر لصالح أعداء الدولة من الروس والأوروبيين، وشن الهجمات الداخلية، ومحاولة إضعاف الدولة لكي تتحقق لهم مكاسب مادية ومعنوية تتمثل في إقامة أرمينيا الكبرى حتى ولو على أنقاض دولة قائمة تحاول الحفاظ على ما تبقى لها من أراض وقوة.
حنين الانفصال
كان للأرمن دائماً حنين لإقامة الكيان الخاص بهم والدولة المستقلة لهم، وكان من نتيجة ضعف وتفكك الدولة العثمانية أن ظهرت هذه الرغبة بقوة، وساندتها بعض القوى المناوئة والمتصارعة مع الدولة العثمانية في ذلك الوقت، ومنها روسيا القيصرية وفرنسا وإنجلترا أيضاً. كان الأرمن حتى ذلك الوقت، وقبل انطلاق صراعات نهاية القرن التاسع عشر، جزءاً فاعلاً في الدولة العثمانية، وضمن قياداتها السياسية.
ويكفي للدلالة على ذلك أن نشير أنه في الفترة الزمنية نفسها التي يدعي فيها بعضهم الآن أن الإبادة قد حدثت؛ كان وزير خارجية البلاط العثماني من الأرمن وهو جابرايل نورادوكيان أفندي (1912م)، وكان أوهانس قويومجوريان باشا هو النائب العام لوزارة الشؤون الخارجية (1909-1913م)، وكان للدولة العثمانية أكثر من 15 سفيراً وقنصلاً من أصول أرمينية يمثلون الدولة في العديد من دول العالم، وشغل ساكيز أوهانس باشا منصب وزير المالية في الفترة من 1897م إلى 1908م إضافة إلى عشرات المناصب الأخرى في الدولة؛ هو ما يجعل من احتمال وجود نية الاضطهاد العرقي أو الرغبة في الإبادة التامة احتمالاً لا يستقيم مع هذا الواقع العملي.
وكان بعض الأرمن في ذلك الوقت يجاهرون بالعداء للدولة، والرغبة الملحة في إضعافها. ويروى أنه حين تم تولية السلطان عبد لحميد الثاني على عرش الدولة العثمانية كتب السفير الفرنسي إلى وزارة الخارجية الفرنسية أن صور الملك الفرنسي كانت تباع في شوارع اسطنبول من خلال الحمالين الأرمن، الذين كانوا يروجون لفكرة أن فرنسا هي من تدير إسطنبول وليس الخليفة.
بدأ الأرمن في داخل تركيا في منطقة الأناضول في المناداة العلنية بتحويل منطقة الأناضول التي تشكل معظم أراضي تركيا المعاصرة إلى دولة أرمينية عبر الانفصال عن الدولة العثمانية في ذلك الوقت. ولتحقيق ذلك بدأ أنصار تلك الفكرة في الانقلاب على الدولة وإشاعة الفوضى، والتخابر مع الدول المعادية للدولة العثمانية، وحمل السلاح والهجوم على القرى غير الأرمينية في محاولة لفرض واقع جديد في شرق الأناضول يسمح لهم بإقامة دولة أرمينية على أنقاض بقايا الدولة العثمانية.
وفي الجهة المقابلة لم يكن يحكم الدولة العثمانية خليفة من خلفاء آل عثمان، وإنما آل الآمر إلى حزب الاتحاد والترقي الذي كان يهتم بفكرة التتريك، ويرى أن الحل الوحيد للحفاظ على ما تبقى من أراضي تركيا هو في سيادة القومية التركية فوق غيرها من القوميات الكردية أو الأرمينية أو الآشورية أو غيرها دون اعتبار للدين أو العرق.
لم يكن المستهدف في سياسة التتريك الأرمن فقط، بل كل من كان يخالف أو يختلف مع القومية الطورانية في ذلك الوقت، وهو موقف جديد، وفكر غريب على أبناء الدولة العثمانية من مختلف الأقليات ممن اعتادوا التسامح والتعايش مع المسلمين على مر عقود طويلة.
بل يذهب بعض الباحثين ومنهم الدكتور نعيم اليافي في كتابه عن «مجازر الأرمن وموقف الرأي العام العربي منها» إلى القول: إن فكرة التتريك كانت فكرة صهيونية تم تمريرها والزج بها في الفكر التركي في ذلك الوقت عبر شخصيات يهودية ساهمت في وضع أسس هذا الفكر القومي العنصري الذي سيطر على الجمهورية الأتاتوركية عقود من الزمن.
يقول الباحث الجامعي الأرميني آرا سركيس آشجيان: «وتتفق مصادر عديدة على أن يهود تركيا ومحافلها الماسونية كانت عاملاً مساعداً كبيراً على ارتكاب حزب الاتحاد والترقي -غالبية أعضائه من يهود الدونمة والماسونيين المتنفذين في محفل سالونيكا الماسوني- والسلطات التركية لهذه المجازر.
ولذلك ازداد الوضع تأزماً في عهد حكومة الاتحاد والترقي، خاصة بعد دخولها في الحرب العالمية الأولى.. كما قام الجيش الروسي بتشكيل ميليشيات مسلحة من الأرمن لتكون طابوراً خامساً. ثم بدأ الأهالي المسلمون يتسلحون أيضاً للدفاع عن أنفسهم، ويقابلون هجوم الأرمن بهجوم مثله.
يقول المؤرخ التركي البرفسور أنور كونوكجو: «يندر وجود قرية في شرقي الأناضول لم تتعرض لمذبحة أرمنية».