يعجب المرء حين لا يستحي أتباع التيار العلماني المتطرف -الذين اعتدنا منهم الظهور بأكثر من وجه- من ادِّعاء التمسك بالثوابت والإسلام الوسطي! أنّى لهم ذلك، وهم من يتبجح دوما بشعار “التنوير” الذي رفعه كانط: “لتكن لديك الجرأة على استعمال العقل؛ أي الجرأة على المعرفة التي تتلخص من حالة العجز والقصور باستخدام العقل دون تحكم الغير..؛ بمعنى فك ارتباطه بأية وصاية تفرض الحجر على العقل وتحول دون جرأته على المعرفة وعلى ما يستطيعه..؛ والمقصود هنا تأسيسه على مرجعية الإنسان لا على المرجعية الثيولوجية، ذلك لأن مِن شأن هذا التأسيس أن يستعيد مفهوم العقيدة باعتبارها الاختيار المؤسس على حرية الإنسان”؛ كما يقول عبد العزيز بومسهولي الذي يصرح أيضا أن “تسمية الفضيلة والخير والحق والله هي تعبير عن استراتيجيات الهيمنة أي عن لعبة إرادات وانتقالات من سيطرة إلى أخرى”؛ مستلهما قوله هذا من الفيلسوف الألماني الملحد نتشه الذي قال عن نفسه أنه ألحد بالفطرة؛ وادعى موت الإله -تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا- وقال: (إلى أين مضى الله؟ سأقول لكم إلى أين مضى، لقد قتلناه أنتم وأنا، أجل نحن الذين قتلناه، نحن جميعا قاتلوه، ألا تشمون رائحة العفن الإلهي؟ إن الآلهة أيضا تتعفن! لقد مات الله وسيظل ميتا) (انظر مشكلة الإنسان د. زكريا إبراهيم؛ وقدر العلمانية في العالم العربي ص:105).
فلولا تستر العلمانيين وسلوكهم دروب النفاق المظلمة؛ وحرصهم على إخفاء العديد من عقائدهم المناقضة لعقيدة التوحيد؛ ما كُنَّا لنسوق مثل هذا الكلام العفن الذي يقطر إلحادا؛ ويؤلم سماعه كل قلب فطر على التوحيد وعلى العبودية لله الواحد الديان.
العبودية التي اعتبرها البومسهولي أنها: “ليست الصلة بالله كما عبر ابن تيمية هي المعبودية والذل والخضوع المتمثل في الالتزام بطقوس العبادة؛ ولكنها على العكس من ذلك التحرر من أي عبودية وتحقيق إرادة الإنسان في الالتحام بالخير”. (عبد العزيز بومسهولي؛ قدر العلمانية في العالم العربي ص:110).
نسجل هنا أن ابن تيمية رحمه الله لم يعبر إطلاقا في أي من كتبه بالمعبودية! وإنما عبر بالعبودية؛ التي أمر الله تعالى بها جميع خلقه فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}البقرة؛ وما أرسل الله من نبي في قوم إلا وأمرهم بالعبودية؛ وقال لهم {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ}؛ فأكرم العباد عند الله تعالى أعظمهم عبادة وخضوعاً لله عز وجل.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله -تعالى-، وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعلت درجته) (العبودية، ص:80).
وهذا ما نص عليه جل علماء الإسلام عند تفسيرهم للعبادة؛ فقال ابن جرير في تفسيره 1/160: (معنى العبادة الخضوع لله بالطاعة، والتذلل له بالاستكانة)، وقال القاضي أبو يعلى في المعتمد في أصول الدين (ص:103): (حقيقة العبادة هي الأفعال الواقعة لله -عز وجل- على نهاية ما يمكن من التذلل والخضوع المتجاوز لتذلل بعض العباد).
وخلاصة القول أن العبادة عند علماء المسلمين لا عند ابن تيمية وحده! قائمة على أصلين عظيمين، وهما: غاية الخضوع لله وكماله، وغاية الحبّ وكماله؛ أما مفهومها عند العلمانيين فهي غاية التنصل من أحكام الشريعة؛ وغاية الاتباع لأحكام الهوى النفس والشيطان.
ومن ضمن ما قاله بومسهولي أيضا: “باسم النص المقدس يتم هدم الاجتهاد والإبداع؛ إن شعار الفكر الديني الارتكاسي هو: “لا اجتهاد مع النص” لقد تحول هذا الشعار إلى عقيدة ثابتة يستهدف من خلالها الفكر الديني احتكار الدين والحياة واجتثاث المشروع المستقبلي للإنسان وإبقائه تحت هيمنة الوسائط الوصية التي تفصل الكائن عن كينونته وعن إرادته الفاعلة” (قدر العلمانية في العالم العربي ص:113).
إن المقولة المشهورة التي يرددها فقهاء المسلمين “لا اجتهاد مع النص”؛ ليست شعارا ولا عقيدة كما ادعى البومسهولي؛ وكشف كما ذكرت في المقدمة عن أميته الدينية؛ بل هي قاعدة أصَّلها العلماء وأهل الاختصاص؛ واستنبطها من يوقن بنصوص الوحي المعصوم وما أعده الله لعباده يوم النشور من مثل قوله سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} الحجرات:1؛ وقوله سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} الحشر:1؛ وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً} الأحزاب:36.
فلا أحد ينفي الاجتهاد وفق قواعده وضوابطه؛ لكن في شريعتنا الإسلامية لا مساغ للاجتهاد مع وجود نص صريح الدلالة.
قال الشيخ أحمد الزرقا في شرح القواعد الفقهية (ص:147): “لا مساغ للاجتهاد في مورد النص؛ لأن الحكم الشرعي حاصل بالنص، فلا حاجة لبذل الوسع في تحصيله. ولأن الاجتهاد ظني والحكم الحاصل به حاصل بظني، بخلاف الحاصل بالنص فإنه يقيني، ولا يترك اليقيني للظني”.
وهذا ما درج عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان فـ”لم يكن أحد منهم يعارض النصوص بمعقوله، ولا يؤسس دينا غير ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وإذا أراد معرفة شيء من الدين والكلام فيه، نظر فيما قاله الله والرسول، فمنه يتعلم، وبه يتكلم، وفيه ينظر ويتفكر، وبه يستدل، فهذا أصل أهل السنة” (الفتاوي لابن تيمية 13/63).
وهي قاعدة عظيمة من قواعد الشريعة تحفظ هذا الدين من التحريف والتبديل؛ بالتسليم المطلق لسلطة الوحي؛ وضبط الاجتهاد وتحديد مجالاته؛ وفي مقابل ذلك فهي قاعدة تأتي على أصول العلمانيين من القواعد؛ وتسد علينا باب شرورهم؛ لذا نراهم لا يكلون ولا يملون من شنّ الهجمات تلو الهجمات عليها؛ بدعوى فتح باب الاجتهاد المطلق في الدين لكل أحد!
وبالغ هذا الكاتب الذي أعمى بصره حقد وكراهية شيخ الإسلام ابن تيمية وكل المسلمين المتمسكين بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم فقال: “فابن تيمية الذي يشكل المرجعية الأساس لهذا الفكر؛ يعلن عن عدائه للحياة ولكل فعل هدفه الالتحام بالحياة؛ يقول في كتابه العبودية (كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل، فالدنيا ملعون ما فيها إلا ما كان لله، ولا يكون لله إلا ما أحبه الله ورسوله وهو المشروع، وكل عمل أريد به غير الله لم يكن لله”. (عبد العزيز بومسهولي ؛ قدر العلمانية في العالم العربي ص:116).
وقد وضع بومسهولي نفسه في موقف حرج جدا حين وجه انتقاده هذا إلى شيخ الإسلام؛ ذلك أن الكلام الذي اعترض عليه ليس كلام ابن تيمية وإنما هو تضمين منه لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد في صحيح سنن الترمذي (ح:2322) وصحيح سنن ابن ماجه (ح:4112) ونصه: “ألا إنّ الدّنيا ملعونةٌ ملعونٌ ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالمٌ أو متعلِّمٌ”.
بمعنى أن الأوصاف اللاذعة التي وجهها بومسهولي إلى شيخ الإسلام مستهجنا ومستكبرا عليه دعوته صرف جميع الأعمال والطاعات -الدينية والدنيوية- لله هو موجه أصالة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ذلك أن ما قرره شيخ الإسلام هو عين ما ورد في الحديث النبوي الشريف!
فأي تجرئ على الثوابت والمقدسات أكثر من هذا؟!
وكيف لنا نحن المغاربة المحبين رسول الله صلى الله عليه وسلم المعظمين لأمره ونهيه أن نقبل هذا الطعن وهذا التجرؤ؟!
أما عن لعن الدنيا الوارد في الحديث الشريف فـ”ليس لذاتها كما يدل الاستثناء الوارد في تمام الحديث “إلا عالماً أو متعلماً أو ذكر الله وما والاه”؛ فالدنيا: أي ما يُشغِل منها عن مثل ما جاء بالاستثناء في الحديث، وعن طاعة الله عز وجل هو الملعون وليس ذات الدنيا هي ملعونة؛ لأن الدنيا كما يقول بعض السلف مزرعة الآخرة؛ ولولا الدنيا لم يتمكن المسلم أن يعيش في الآخرة سعيدا لينظر إلى ربه تبارك وتعالى ويكون ذلك أسعد أيام سعادته في الآخرة”.
كما أن الحديث المذكور وما شابهه لا يعني دعوة الإسلام إلى الانقطاع عن الدنيا، بل نجد النبي صلى الله عليه وسلم رتب الأجر على جماع الرجل زوجته! وهو من ملذات الجسد؛ فقال صلى الله عليه وسلم: وفي بضع أحكم صدقة، قالوا: يا رسول الله؛ أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إن وضعها في الحلال كان له أجر. (رواه مسلم).
فأنى لمثل بومسهولي أن يدرك عظمة نظام الإسلام؛ وحكمة تشريعه.
أما ابن تيمية فهو العدو اللدود لكل العلمانيين؛ لأنه عالم سلفي أثري لا يفارق الدليل قيد أنملة؛ كشف الله به عوار الملاحدة والفلاسفة وعددا كثيرا من الملل والفرق الضالة؛ وبالنظر إلى غزارة علمه؛ وقوة قلمه؛ وعمق طرحه؛ وخطورة كتبه على نحلتهم؛ فقد شنوا عليه حربا شعواء؛ ورموه بتهم هو بريء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب؛ ووسموه زورا وبهتانا بالتطرف والإرهاب لتنفير الناس عن كتبه وفتاواه؛ وتمنى الجابري قبل موته أن يُسقط منهجه النقدي على ابن تيمية، وقال: “..لو كان لدي مثل هذا الميل نحو مشروع إصلاحي؛ لكان في برنامجي الاشتغال على ابن تيمية أيضا، ولقدمت للقراء وجهًا آخر عنه يختلف عن الوجه السائد والمؤدلج..” (مقابلة أجراها عبد الإله بلقزيز مع الجابري في مجلة: المستقبل العربي، العدد 278).