أمريكا والجهاد.. استغلال للمفهوم وحرب للمرجعية إبراهيم الطالب

 

لأنها تمتلك أقوى إعلام في العالم، ولأنها تمتلك أقوى جيش في العالم، ولأنها تمتلك أقوى استخبارات في العالم، ولأنها تخترق بنيات الحكم في أكثر دول العالم، استطاعت أمريكا أن تلعب بالجهاد ومع المجاهدين خلال العشرين سنة الماضية، لتشكل بهذا اللعب الاستراتيجي الخريطة الجغرافية والسياسية والثقافية لدول العالم الإسلامي وخصوصا العربية منها.

فخلال القرن العشرين تبلورت فكرة الجهاد في العلاقات الدولية، ولعبت استخبارات الدول الكبرى بالجهاد بوصفه شعيرة استراتيجية لها قوة في الحشد الجماهيري من أجل توظيفه في لعبة الدم في الجبهات الحربية التي تتصارع فيها الدول الغربية.

ولقد حفظ لنا التاريخ كيف استغلت ألمانيا الجهاد والمجاهدين في حربها ضد الحلفاء، فكانت الحكومة الألمانية تصْدِر على نفقتها جريدة تحمل اسم الجهاد وكانت تؤطر معسكرات المجاهدين والمقاومين الذين كانوا ضد احتلال بلدانهم من طرف الحلفاء خصوصا بريطانيا وفرنسا.

وقد وصل الألمان إلى المغرب حيث كانت لهم صلات بالمجاهد أحمد الهيبة حيث قدموا له الدعم المالي والعتادي.

الأمر نفسه قامت به فرنسا حيث استغلت السلطان في استصدارها منه أمرًا يدعو المغاربة إلى القتال في صفوف فرنسا في الحرب العالمية الثانية.

ومنذ بدايات القرن العشرين تبلورت فكرة الجهاد من خلال حروب المقاومة وجيوش التحرير في كل الأقطار العربية والإسلامية، وازدادت هالة الجهاد ومكانته قوة خلال الحروب ضد الاحتلال الصهيوني، ثم وصلت أوجها مع الجهاد الأفغاني خلال الحرب الباردة، والذي لقي مساندة ودعما وتأييدا من أمريكا وَظفت خلاله علاقاتها مع السعودية ودول الخليج وباقي الدول الإسلامية التي تدور في فلك الرأسمالية الأمريكية، حيث تم تأطير المجاهدين وتمويل رحلاتهم وتسهيل جمع التبرعات لهم في كل تلك البلدان المذكور بما فيها المغرب.

والعجيب أن الآلة الإعلامية الغربية استطاعت أن تجعل من اللباس الأفغاني بقبعته (الباكول) ولحى المجاهدين رمزا للجهاد والمقاومة ضد الشيوعية والاشتراكية، وفي المقابل احتفت بزي تشي غيفارا الحربي بلحيته وقبعته (البپِرية) بنجمها الخماسية الفضية، والذي صار رمزا لمكافحة وحشية الرأسمالية الأمريكية والغربية.

وعلى العموم كانت بلدان المسلمين ساحات ساخنة مشتعلة بالنار في حين كانت بين الاتحاد السوفياتي وأمريكا حربا باردة، وكانت من أقوى نتائجها أنها قسمت المسلمين بين ولاءين اثنين، إما دول تتمسح بأحذية المعسكر الشرقي لا تتحرك إلا بمشورته مثل ليبيا القذافي وسوريا الأسد ومصر عبد الناصر وغيرها، أو دولا خاضعة للإملاءات الأمريكية مثل دول الخليج والمملكات الشريفة وإيران الشاه وغيرها.

وبعد سقوط جدار برلين الذي سقط معه الاتحاد السوفييتي، أصبح الجهاد إرهابا وأصبح المجاهدون إرهابيين.

وأصبحت الاستخبارات الأمريكية والصهيونية تستغل الجهاد لضرب مرجعيته العقدية وهدم الإسلام من الداخل بأيدي المسلمين، فرأى العالَم بأجمعه الحرب القذرة التي غطت العشرية الحمراء في الجزائر، عقب فوز جبهت الإنقاذ في الانتخابات الرئاسية.

أما بعد دخول الألفية الحالية فقد استهلت أمريكا القرن الحالي بغزوات ظالمة على أفغانستان مستغلة أجواء سقوط البرجين في نيويورك، لتسقط حكم طالبان وتلغي حكمها الإسلامي، ثم تُثَنِّي بالعراق لتفكك أكبر جيش عربي في منطقة الشرق الأوسط، ثم لتقوم بإعدام صدام حسين بحبل أمريكي على يد مقاتلي الشيعة الصفوية صباح يوم عيد الأضحى، وحضر الشنق مقتدى الصدر وسُرِّب الشريط التوثيقي للحدث، حتى تعمل الهزيمة النفسية في سنة العراق أثرها البالغ، مؤذنة ببداية تاريخ جديد لعراق شيعية صفوية.

وهنا أيضا استغلت أمريكا مفهوم الجهاد وشريعته عند الشيعة لتغير الجغرافيا السياسية في المنطقة، وبرع الشيعة في قتل السنة وتدمير معالم تاريخهم الطويل في العراق؛ فحتى أموات الصحابة والتابعين في قبورهم  لم يسلموا من همجية مقاتلي الشيعة الذين شكلوا السند الأكبر لأمريكا في تفكيك كل القوى الحية المجاهدة للغزو الأمريكي وذلك بقيادة إيران؛ فإيران لم تُسقط من عينها العراق كامتداد لهيمنتها خصوصا أن فيها مدينة النجف التي تعتبر بالنسبة للشيعة بمثابة الحرم المكي بالنسبة للسنة، وكذلك بعض المدن العراقية الأخرى التي تعتبرها إيران مقدسة في معتقداتها وتطمع في ضمها قبل ذلك الوقت بعقود.

وفي كل هذه الحروب كانت فكرة الجهاد وشعائره ووجوه رموزه حاضرة، في الإعلام الدولي، وتم إخراج الحرب إخراجا هوليوديا يظهر فكرة الجهاد وتطبيقاتها على أنها مرادفة للإرهاب، في حين تظهر وسائل الإعلام المتواطئة ما تقترفه أمريكا بمثابة حروب نبيلة من أجل السلام والديمقراطية والبحث عن الإرهابيين، ودك الجبال والمغارات على رؤسهم لأنهم يهددون أمن العالم.

لكن على أرض الواقع لا نرى سوى استنزافا للنفط الذي يبيعه العملاء الحلفاء للشركات الأمريكية في الظلام، ويهرب في ناقلات البترول الأمريكية والغربية عبر البحار إلى البلدان الديمقراطية، ليرجع فيباع على شكل ذخيرة وأسلحة في بلدان المسلمين ليستمر القتال سنوات أخرى.

أما من الناحية الثقافية، فصارت كل أدبيات الجهاد وما يصاحبه من قصائد شعرية حماسية مجرد أدلة على أن الجهاد يرادف الإرهاب، عكس منهج الغرب في التعامل مع الجهاد الأفغاني ضد الروس، فأمريكا والغرب خلال ثلاثة عقود منذ فوز الجبهة في الجزائر وعيديد في الصومال ومنذ انفصال الجمهوريات الإسلامية في أوروبا الشرقية عن الدول الشيوعية، بعد سقوط المعسكر الشرقي وإلى اليوم أمعنت في إظهار كل عمل مسلح ضد المشاريع التوسعية لأكبر دول مجلس الأمن خصوصا روسيا وبريطانيا وأمريكا، على أنه إرهاب وتطرف وعداء للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، واستهداف للحضارة الغربية على حد تعبير بوش الإبن المنافق، لتفسير العنف ودموية قراراته، في محاولة للتمويه عن الغرض الحقيقي وراء حروبه والتي أطلق عليها هو نفسه الوصف الحقيقي حيث صنّف غزوه لأفغانستان عام 2001 على أنه “حملة صليبية”، عندما قال أمام الإعلام الدولي: “هذه الحملة الصليبية، هذه الحرب على الإرهاب ستأخذ بعض الوقت”.

استهدفت أمريكا خلال هذه الحملة الصليبية العاشرة كل مكونات الإسلام السني بالتحديد وذلك في محاولة كبيرة من الغرب والشرق النصراني/العلماني، لمسح كل مكتسبات مرحلة الحرب الباردة.

فلما كان المعسكر الغربي بقيادة أمريكا مضطرا إلى أن يشجع الجهاد وينشر أدبياته بين الشعوب الإسلامية والتدخل لدى الأنظمة العربية والإسلامية لتيسير مرور الأموال والكتب والشباب المشتاق إلى الجهاد لصد الهجوم السوفييتي على بلاد الأفغان المسلمة.

تماما كما وقع عندما نفذت الموساد عملية عش الدبابير في سوريا لتجميع كل من يعتقد في جهاد الأمريكان والغرب، لتشكل في سوريا والعراق دولة أطلق عليها “الدولة الإسلامية في العراق والشام” داعش، فيسرت استخبارات كل الدول مرور “المجاهدين” عبر المطارات رغم أنها تعتبرهم إرهابيين، وذلك لإنجاح عملية الموساد المذكورة، ثم هزمت داعش وتقلصت دولتها بنفس الكيفية والتوقيت الذين توسعت به.

واليوم توشك أن تمضي 20 سنة على هذه “الحملة الصلبية”، بكل حروبها ونعرض أهم نتائجها:

1- تشويه مفهوم الجهاد وربطه بالإرهاب، وتوسيع مفهوم هذا الأخير ليشمل حتى المقاومة الإسلامية حماس ضد التوسع الصهيوني.

2- تمزيق كل الروابط بين المسلمين وإحداث الهزيمة النفسية بالأجيال التي عاشت مرحلة “الحملة الصليبية العاشرة”.

3- انتصار “إسرائيل في حملات التطبيع الصهيونية التي كانت تشتغل بالموازاة مع “الحملة الصليبية العاشرة”، واختراق “المكون العبري” الذي تم تطويره في مختبرات الصهيونية العالمية للشعوب الإسلامية في محاولة كبيرة لإعادة انتشار اليهود في العالم الإسلامي  بعد إدماجهم في الفكر الصهيوني وأجنداته التوسعية.

4- جرُّ التيارات الإسلامية إلى مستنقعات السياسة العَلمانية لتظهر بعد خروجها منها أمام شعوبها إما متواطئة مع الظلمة حزب النور في مصر، أو إرهابية زورا (الإخوان المسلمين في مصر)  والتي وُوجهت بالتقتيل والسجن والتعذيب، وإما خائنة برضوخها لتداعيات الحرب على الإرهاب (القبول بالتطبيع) حزب العدالة والتنمية المغربي.

5- تدمير أكبر جيش عربي (العراق)، وإيقاف نهضته العلمية، والاستيلاء على مقدراته الطاقية، وتغيير تركيبته الاجتماعية والعقدية، وألحقت ليبيا في نفس الاستراتيجية التدميرية التوسعية.

6- تدمير سوريا بالكامل من خلال الحفاظ على بشار الأسد وبيع الأسلحة للطرفين بواساطات مافيات الحرب، التي كانت توصل الشباب الطامح لنصرة الإسلام إلى ساحات القتال عبر الصحاري والجبال وذلك حتى تستمر الجبهات مشتعلة لإنجاح خطط تجميع ملايين الشباب المتحمس لدينه وهويته والتخلص منهم في حرب بدون منطق سوى منطق الإمبريالية الغربية.

7- تكميم أفواه العلماء والدعاة، وسجن جل من لم ينخرط منهم في الحملة على الإسلام خصوصا إذا عمل على رفع الوعي بحجم المؤامرة، ومن أمثالهم العلامة عبد العزيز الطريفي والمفكر الصحافي أحمد الصويان رئيس الرابطة الدولية للصحافة الإسلامية، وغيرهما كثير.

8- تغيير المفاهيم الإسلامية الخادمة للهوية الإسلامية مثل عقيدة الولاء والبراء والموقف من اليهود والنصارى المحاربين، واستبدالها بالمفاهيم الملتبسة غير المنضبطة بالإسلام عقيدة وشريعة، ثم تبلور الأمر وتطور فأحدثت أمريكا للمسلمين دينا سماه واضعوه بالدين الإبراهيمي، وهو تلفيق بين الإسلام والنصرانية الصليبية واليهودية الصهيونية.

9- إفراغ المسجد من وظائفه وشل منابر الجمعة في التصدي للحملة الصليبية على الإسلام، والتضييق على المشتغلين في الدعوة إلى الله.

10- حل كبريات الجمعيات الخيرية الإسلامية مثل مؤسسة الحرمين بتهمة الإرهاب وغيرها من المنظمات الدولية الإسلامية التي كانت تنافس المنظمات الدولية الصليبية مثل منظمة الصليب الأحمر.

وأكتفي بهذه العشرة لضيق حيز المقالة وإلا فنتائج الحملة الصليبية كثيرة ومتنوعة ولها القدرة على التناسل والتطور.

إن المسلمين بعد اليوم سيعيشون مرحلة ما بعد الحملة الصليبية العاشرة، ويحتاجون من نخبتهم الصادقة الشجاعة دراسات وبحوثا تحلل نتائجها، وتقترح الحلول للتخفيف من آثارها القاتلة للأمل في أي نهضة لأمتهم، على الأقل لدى جيلين من أبناء الإسلام الذين نشأوا في أتون هذه الحروب الغربية والتي استهدفت بعد الاستحواذ على ثروات المسلمين وتشتيت دولهم وشعوبهم هزيمتهم نفسيا حتى تضمن عدم حصول أي يقظة في العقود القريبة المستقبلية.

لذا على الغيورين أن يبذلوا كل جهودهم للتخفيف من آثار تلكم الحروب الصليبية/العلماني، وبناء الثقة في نفوس النشء لمحاولة النهضة من جديد.

وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *