القدس عائدة لا شك

عرف بيت المقدس فتنا ومحنا عديدة فما فتئ هدفا للغزاة والمحاربين، حتى فتح على أيدي المسلمين الذين حرروه من أيدي الرومان، فعمَّ فيه السلام والأمن منذ دخله عمرو بن العاص رضي الله إلى جانب معظم مدن فلسطين سنة 15هـ.
وقد سجل التاريخ أقوالاً لعمر بن الخطاب، أثناء وجوده في بيت المقدس، تبَيَّن أن هذه البلاد فتحت بالإسلام، وأنها لا تضيع إلا بالتخلي عنه، حيث قال: “إنكم كنتم أذلَّ الناس وأحقر الناس وأقلَّ الناس، فأعزكم الله بالإسلام، فمهما تطلبوا العزة بغيره يُذلكم الله” (البداية والنهاية)، وخطب في الناس قبل أن يغادر بيت المقدس، وأوصاهم قائلاً: “يا أهل الإسلام، إنّ الله تعالى قد صدقكم الوعد، ونصركم على الأعداء، وأورثكم البلاد، ومكن لكم في الأرض، فلا يكون جزاؤه منكم إلا الشكر، وإياكم والعمل بالمعاصي، فإنَّ العمل بالمعاصي كفرُُ بالنعم، وقلما كفرَ قومٌُ بما أنعم الله عليهم، ثمَّ لم يفرغوا إلى التوبة إلا سُلبوا عِزَّهم، وسَلّط الله عليهم عدوهم. (الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، 1/ 258).
ضاعت فلسطين من المسلمين مدة إحدى وتسعين سنة هجرية عندما انحرفوا عن دينهم، وانتشر بينهم اللهو، وسادت الأفكار الضالة والفرق المنحرفة، حيث احتلها الصليبيون سنة (492هـ = 1099م) (ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 8/189). فلم يستطع تحريرها سوى القادة الملتزمون بدينهم المعتزون بهويتهم، كعماد الدين زنكي ونور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي.
قال ابن الأثير:” طالعتُ تواريخ الملوك المتقدمين، إلى يومنا هذا، فلم أرَ بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن سيرةً من الملك العادل نور الدين، فقد كان حريصاً على أداء السنن وقيام الليل بالأسحار، ينام بعد صلاة العشاء ثم يستيقظ في منتصف الليل، فيُصلي ويتبتل إلى الله بالدعاء حتى يؤذن الفجر، كما كان كثير الصيام.
وكان صلاح الدين الأيوبي كما يقول أحد المؤرخين المعاصرين: “..كثير الذكر، شديد المواظبة على صلاة الجماعة، ويواظب على السنة والنوافل ويقوم الليل، وكان يحب سماع القرآن، وينتقي إمامه، وكان رقيق القلب خاشع الدمعةِ، إذا سمع القرآن دمعت عيناه، شديد الرغبة في سماعِ الحديث، كثير التعظيم لشعائر الله”. (النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية).
وسقطت بلاد الشام وفلسطين مرة أخرى وهذه المرة في يد التتار سنة (658هـ= 1260م)، عندما ضعف المسلمون وتخلوا عن مبادئ دينهم، وأصيب المسلمون بهزيمة نفسية لم يسبق لها مثيل، وفرُّوا من أمام التتار، وسلموا لهم البلاد دون مقاومة تذكر. (الحركة الصليبية لسعيد عاشور2/887-894).
والذي وقف في وجه التتار، وتمكَّن من إلحاق الهزيمة بهم، وإخراجهم من فلسطين والشام هو قطز، الذي كان حاكماً مسلماً مستقيماً صالحاً، حيث يقول فيه ابن كثير: “كان قطز شجاعاً بطلاً كثيرَ الخير، ناصحاً للإسلام وأهله، وكان الناسُ يحبونه ويدعون له”. (البداية والنهاية 13/225).
والشعار الذي رفعه قطز في معركة عين جالوت وردده جنوده هو “وا إسلاماه”. وكان الانتصار في عين جالوت (25 رمضان 658هـ = 6 سبتمبر 1260م)، أي بعد خمسة أشهر فقط من سقوط فلسطين في أيديهم (جامع التواريخ للهمذاني).
أما الذي حافظ على أرض فلسطين ومنع بيعها لليهود عندما ضعفت الدولة العثمانية فهو السلطان العادل الزاهد العابد عبد الحميد، الذي عُرِف بخلفيته الإسلامية، حيث قال “لهرتزل” عندما عرض عليه الأموال الطائلة، وأن يحل كل مشكلات الدولة العثمانية المالية مقابل سماحه بدولة لليهود في فلسطين قال: “لا أقدرُ أن أبيع ولو قدماً واحداً من البلاد، لأنها ليست لي، بل لشعبي، ولقد حصل شعبي على هذه الإمبراطورية بإراقة دمائهم، وقد غذوها فيما بعد بدمائهم وسوف نغطيها بدمائنا قبل أن نسمح لأحدٍ باغتصابها منا” (الطريق إلى القدس، محسن صالح).
والذي مكّن لليهود في فلسطين هم العلمانيون في حزب الاتحاد والترقي، حيث يقول السلطان عبد الحميد: ” إن سبب خلع الاتحاد والترقي له من السلطة هو إصرارهم عليه أن يصادق على تأسيس وطن قومي لليهود في الأرض المقدسة فلسطين” (المرجع نفسه).
احتل البريطانيون القدس في 9 ديسمبر 1917م، وأعلنوا عن طبيعة هذا الاحتلال عندما قال القائد البريطاني ألِنبي في خطابه: “اليوم انتهت الحروب الصليبية”، وهذا ما فعله القائد الفرنسي “غورو” عندما احتلَّ سوريا، حيث وقف على قبر صلاح الدين الأيوبي وقال بلهجة المنتشي المنتصر: “ها قد عدنا يا صلاح الدين” (محسن صالح، الطريق إلى القدس).
لكَ الله يا أقصى تقنعـت باكيـاً وكلُّ صناديـدِ الرجالِ أسيــرُ
بكيتَ وأيـدي الجاهلياتِ تلتقـي عليكَ، وعجلُ السامريُّ يخـورُ
يديرُ رحاها ألف كسرى وقيصرٍ وألـف حيـيٍّ للمــديــرِ مديــــرُ
فإذا كانت فلسطين قد رضخت تحت الاحتلال الصليبي ثم المغولي حقبة من الزمن، فقد استطاع المجاهدون الشجعان استرجاعها وتطهيرها من دنس المحتل، غير أن هذا الفتح كما سبق ذكره كان على يد رجال صالحين قبل أن يكونوا قادة محنكين، فوعد الله بنصرة عباده الصالحين حق يقين لكن الفتح لا بد له من شرط مسبق، ألا وهو نصر الله تعالى بالتزام أوامره واجتناب نواهيه والوقوف عند حدوده، قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ”.
وها قد وضع العلمانيون راية القومية الجاهلية بعد أن طبَّعوا العلاقات مع عدوهم ورضوا بالهوان والذل، وحملت راية المقاومة الإسلامية شبيبة المسلمين لتدافع عن عرضنا فلا أقل أن ندعو لهم بالنصر والتسديد وأن لا نسلمهم لعدوهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *