لما كانت الشريعة المحمدية خاتمة الشرائع الإلهية فقد ضمنها الله تعالى مقومات مواكبة التطورات البشرية بما يجعلها حافظة للثابت ومستوعبة للمتغير، وذلك من خلال أسس راسخة، وأصول عامة منبثقة عنها.
عالمية الإسلام
قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف 158].
اجتمعت في هذه الآية الكريمة خمس كلمات دالة على عالمية الرسالة الإسلامية: {أيها الناس}، {جميعا}، { لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، {فَآَمِنُوا}، {وَاتَّبِعُوهُ}.
ولذا قال المفسرون: “هذا خطاب عام لجميع البشر من العرب والعجم وجهه إليهم محمد بن عبد الله النبي العربي الهاشمي بأمر الله تعالى ينبئهم به أنه رسول الله إليهم كافة، لا إلى قومه العرب خاصة كما زعمت العيسوية من اليهود، فهو كقوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}[سبأ:28] وقوله: { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}[الأنعام:19] أي وأنذر به كل من بلغه من الثقلين، فمن قال إنه يؤمن برسالته إلى العرب خاصة لا يعتد بإيمانه لأنه مكذب لهذه النصوص العامة القطعية مما جاء به وما في معناها كقوله تعالى: { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1]”اهـ [تفسير القرآن الحكيم 9/252].
ومما يندرج تحت هذا العموم الشمولي؛ جانب التشريع، حيث أنزل الله تعالى على هذا الرسول شريعة كاملة مهيمنة، وألزمه –وأمته تبع له- أن يعمل بها دون غيرها؛ كما قال سبحانه:
{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة 48]
وقال سبحانه: { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية (18)]
وأول ما نستفيده من الكلمة القرآنية: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} ونظيراتها؛ استبعاد الفلسفة القائلة بأن الله خالق لم يشرع لعباده شيئا، وأن أطروحة التشريع الإلاهي إنما هي (ثيوقراطية) أحدثها بعض الملوك ورجال الدين ليكرسوا هيمنتهم على الشعوب باسم الإله!
وإذا كان هذا واقعا في تاريخ النصرانية المحرِّفة لرسالة المسيح، فإنه لا يصح حكما عاما إلا عند الذين لا يؤمنون بربانية الخطاب القرآني الصريح في مثل قوله: {إن الحكم إلا لله}، وقوله: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ}، وغيرها من القطعيات القرآنية المطلقة التي تخترق حواجز الزمان والمكان، والتي تبقى معها الفلسفة المذكورة؛ سوءة فكرية ناتجة عن هوى إنساني يحب التخلص من قيود العبودية لله تعالى بشتى التأويلات.
بين الثابت والمتغير
وإذا أردنا استيعاب هذا المعطى منطقيا، فلا بد أن نفرق بين الثابت والمتغير من متعلقات الرسالة؛ فالعقيدة والسلوك الأخلاقي متعلقات ثابتة، أما التشريع الإلهي المنظم لشؤون البشر فيتغير من أمة إلى أخرى ومن زمان إلى آخر، مراعيا عمليات المد والجزر في تطور الفكر البشري، ومستوعبا للمستجدات المعرفية والسلوكية في حياة البشر.
ولما كانت الشريعة المحمدية خاتمة الشرائع الإلهية فقد ضمنها الله تعالى مقومات مواكبة التطورات البشرية بما يجعلها حافظة للثابت ومستوعبة للمتغير، وذلك من خلال أسس راسخة، وأصول عامة منبثقة عنها:
أما الأسس فهي:
1- منهاج يضبط أصول فهم النص والعمل به
2- علم يضبط عملية إثبات النص والاستنباط منه
3- قواعد فقهية عامة شمولية مستقرأة من النص
وأما الأصول العامة المنبثقة عن تلك الأسس فهي:
1- تقديس النص الثابت وتقديمه في حال التعارض مع العقل أو غيره من مناطات التشريع عند الآخر.
2- فتح باب الاجتهاد المنضبط
3- توقف عملية النسخ بعد انقطاع نزول الوحي على خاتم الرسل
4- شمولية الشريعة
وفي كل هذا نصوص قرآنية معلومة.
بين العالمية والإلزامية
.. إن دلالة ما تقدم من النصوص صريحة، بل قطعية في أن كل حكم صادر عن تشريع البشر، ولو كانوا هيئة أممية؛ فهو مردود ما دام مخالفا لحكم الله الثابت.
وأنه لا يعامل معاملة النص الشرعي؛ بحيث نجعله سببا لتأويل الحكم الثابت بالشرع أو ناسخا له.
كما أن النصوص المتقدمة قطعية في الدلالة على أن كل اجتهاد تشريعي يجب أن يكون في إطار الضوابط الشرعية التي تؤطر عملية الاجتهاد، وتمكن من استيعاب جميع المستجدات حكما وتكييفا.
وهذه حقيقة تجعل الأمة الإسلامية ذات حالة خاصة في مجال تشريع القوانين، وأنها مستغنية عما يحتاج إليها غيرها في هذا المجال.
تجليات العالمية في الواقع العملي للأمة
1- مراسلات النبي صلى الله عليه وسلم لملوك الأرض في زمانه؛ حيث راسل النجاشي ملك الحبشة والمنذر بن ساوى العبدي ملك البحرين، وأبرويز ملك الفرس (كسرى)، وهرقل ملك الروم (هرقل)، والمقوقس ملك مصر ..، ومما جاء في تلك الكتاب الشريفة: “أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام”.
2- دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لسائر الناس من عرب وعجم، ويهود ونصارى، ومجوس ووثنيين، وقد استجاب له خلق كثير منهم؛ كعبد الله بن سلام عالم اليهود، وسلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وأصحمة ملك النصارى بالحبشة ..
3- ممارسة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم للجهاد الشرعي، والذي لم يكن هدفه إكراه الناس على الإسلام، بل شرح دعوة الإسلام الربانية، وتعبيد طريق الدعوة وكسر الحاجز الذي تقيمه بعض السلطات في وجهها.
4- بث المسلمين لعوامل نهضتهم ومظاهر حضارتهم السامية القائمة على العدل والرحمة والطهارة، وتنوير الأذهان بأصول وفروع المعرفة البناءة، عبر قوافل التجارة والمراسلات وسائر أنواع الاحتكاك والتواصل.
5- الفتوحات الإسلامية المنيفة التي حررت العقل البشري من الأوهام والخيالات، وأخرجت الناس من عبادة البشر والأهواء إلى عبادة الله وحده، ومن جور الأديان المحرفة إلى عدل الإسلام ..
حقوق الإنسان بين عالمية الإسلام وخصوصية المفهوم الغربي:
ومن المفاهيم المتصلة بما تقدم: مفهوم حقوق الإنسان؛ فهو معطى ثابت في الشريعة الإسلامية، مجسد في التطبيقات الشرعية لأحكامها، التي تَقَرر في مصدرها الأول قول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} [الإسراء 70].
ومن صور ذلكم التكريم؛ ما منح الله سبحانه للإنسان من حقوق تسهم في تحقيق مصالحه المختلفة.
وقد عرف فقهاء المسلمين الحق بأنه: “ما يثبت للشخص من مميزات وإمكانات مادية أو معنوية”( 1).
كما بينوا أن حقوق الإنسان المتنوعة مكفولة في شريعة الإسلام، ومانحها هو الله سبحانه وتعالى، لا غيره من البشر الذين يريدون فرض مبادئهم ومذاهبهم على الناس باسم تمتيعهم بحقوقهم، كما يفعل الغرب الآن حين يسعى لعولمة مفهومه الخاص لحقوق الإنسان، المستوحى من تاريخ الإنسان الأوروبي وتطور عقليته.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله: “ما هو حق للعبد إنما ثبت كونه حقا له بإثبات الشرع ذلك له”.(2 )
فالحقوق منحة من الله تعالى للإنسان تسهم في تحقيق مصالحه وتعينه على عبادة ربه وهي من مظاهر تكريم الله له.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) دليل المصطلحات الفقهية للقدوري (ص: 65).
([1]) الموافقات، نقلا عن: المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم (4/153)..