مع بداية الموسم الدراسي يكثر الحديث عن تربية الأبناء وتعليمهم والسبل والطرق الناجحة لتحقيق ذلك، وتتعدد وجهات النظر وتختلف الآراء في الموضوع باختلاف المناهج والبرامج، والقراءات والاستقراءات، والإيديولوجيات والخلفيات، وغالب المتحدثين والمتدخلين والكتاب تجدهم منبهرين بنظريات وأساليب في التربية؛ وضعها معاصرون غربيون -ولا غضاضة في الاستفادة منهم فيما ينفعنا-، بينما غفلوا عن كون أسس هذه الأساليب ومنهجها موجود في كتاب ربنا وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومنهج سلفنا الصالح.
وهو منهج متكامل يشمل جميع جوانب الحياة ومناحيها مما يحتاجه الناس وتصلح به أحولهم وتستقيم به شؤونهم؛ كما قال الإمام مالك رحمه الله: “لا يصلح أخر هذه الأمة هذه الأمة إلا ما أصلح أولها”. (الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض 2/88).
وأول جانب نذكره في هذا المنهج التربوي السلفي هو الجانب الاعتقادي؛ فالعقيدة تنبني عليها كل العبادات والمعاملات والسلوكات والتصورات والتصرفات، ولا يقوم بناء تربوي قويم ولا منهج تعليمي مستقيم إلا على اعتقاد صحيح سليم، ويزداد التأكيد على أهمية العقيدة والتوحيد حين نواكب ونتابع ما يعيشه مجتمعنا من تموجات فكرية؛ وانحرافات اعتقادية؛ وتصورات خرافية، تخرج الأطفال عن أصل فطرتهم ومعدن إيمانهم.
وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء”، قال أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم “فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ” الآية، (رواه أحمد:9091 والبخاري:1359 ومسلم:6851).
فنجد أن دأب المرسلين وعباد الله الأكرمين من السلف الصالحين ترسيخ الاعتقاد الصحيح في نفوس الأطفال والبنين كما قال رب العالمين عن نبيه إبراهيم عليه السلام: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾ [إبراهيم: 35]. فدعا إبراهيم لأبنائه أن يكونوا من أهل التوحيد والابتعاد عن الشرك والتنديد، يقول القرطبي: “وكان إبراهيم التيمي يقول في قصصه: من يأمن البلاء بعد الخليل حين يقول: “واجنبني وبني أن نعبد الأصنام” كما عبدها أبي وقومي” (الجامع لأحكام القران 9/370).
ومن حرص نبي الله يعقوب على عقيدة بنيه ما ذكره الله تعالى بقوله: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 133].
يقول العلامة ابن عاشور رحمه الله: “وهذه الوصية جاءت عند الموت وهو وقت التعجيل بالحرص على إبلاغ النصيحة في آخر ما يبقى من كلام الموصي فيكون له رسوخ في نفوس الموصين” (التحرير والتنوير 1/732).
ومن تلك الوصايا الرشيدة والتوجيهات السديدة ما افتتح به لقمان وصاياه لابنه كما قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان:13]. يقول ابن عاشور: “ابتدأ لقمان موعظة ابنه بطلب إقلاعه عن الشرك بالله لأن النفس المعرضة للتزكية والكمال يجب أن يقدم لها قبل ذلك تخليتها عن مبادئ الفساد والضلال” (التحرير والتنوير 21/155).
ومن أمثلة حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تثبيت التوحيد في نفوس الناشئة حديث معاذ رضي الله عنه قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “يا معاذ”، قلت: لبيك وسعديك، ثم قال مثله ثلاثا: “هل تدري ما حق الله على العباد”؟ قلت: لا. قال: “حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا”. ثم سار ساعة فقال: “يا معاذ”، قلت: لبيك وسعديك، قال: “هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟: أن لا يعذبهم.” (رواه البخاري 6261 واللفظ له، ومسلم 30).
ومن الأمثلة الرائعة والنماذج الرائقة على التنشئة الإسلامية الفريدة للأجيال المؤمنة في عهد النبوة بغرس العقيدة في نفوسهم، حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: “كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال: يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف”. (رواه أحمد في مسند بني هاشم حديث2537 والترمذي 2516).
فالتعليم الذي لا يقوم على عقيدة صحيحة صافية، مصيره إلى الهاوية، وتربية لا تتأسس على تصور صحيح للدين تربية جوفاء، لهذا ينبغي على الجهات المسؤولة على صرح التربية والتعليم تعزيز ساعات التربية الإسلامية، وإعادة النظر في مناهجها الدراسية قصد المساهمة في تكوين شخصية المسلم الصالح في نفسه، والمدافع عن هويته، والخادم لدينه ووطنه.