1- النقاشات المجتمعية التي تقع بين الفينة والأخرى حول أحكام قطعية من الدين، تؤكد أن الصراع يحتدم غالبا بين معسكرين، معسكر إسلامي يدعو إلى التمسك بالدين والهوية، انطلاقا من إسلامية الدولة، ومعسكر علماني يشكك في هذه المرجعية ولا يعترف بها. فهل ترون أنه لم يعد فعلا المجال اليوم يسمح بالحديث عن إسلامية الدولة؟
“لا خوف على الإسلام وإسلامية الدولة في مجتمعات متدينة بفطرتها، قد تنعق فيها بعض الغربان بأصوات لا تعبر عن ضمير الأمة، وربما تصول وتجول كلما واتتها الصولة واستتب لها أمر الدولة، لكنها لن تغير من الواقع والمآل الموعود للأمة”.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وعلى من اتبع هداه واستن بسنته إلى يوم الدين،
أما بعد فيطيب لي في بداية هذا الحوار أن أتقدم بالشكر الجزيل إلى الإخوة الإعلاميين في جريدة السبيل على ما يبذلونه من جهود رائدة في نشر الوعي الإسلامي والدفاع عن ثوابت الأمة في بلاد المغرب، في وقت تكالبت فيه منابر الإعلام العلماني على نقض عرى الإسلام عروة عروة في زمن الهزال الفكري، حيث تُضرب الطبول والمزامير لمثل هذه الأصوات الناشزة، وتُقمع فيه أصوات المفكرين والعلماء الأحرار وتُقصى عن مواطن التأثير، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «سيأتي على الناس سنوات خدّاعات، يُصَدق فيها الكاذب ويُكذَّب فيها الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن ويُخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل وما الرويبضة يا رسول الله؟ .. قال: «الرجل التافه يتكلم في أمر العامة»(1 ).
ومن المعلوم أن الصراع بين الحق والباطل قديم وعريق في تاريخ المذاهب والأهواء المناهضة لشرائع اﻷنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهي سنة ماضية لا ينفك عنها عصر من العصور، كما قال الله تعالى: ﴿وَلَوْلا دِفاعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ﴾(2 ).
فما يثار من نقاش فكري وسياسي في قضايا الثوابت الإسلامية بين التيار الإسلامي والتيار العلماني هو من باب التدافع الفكري والسياسي الذي يدفع الله فيه الباطل بمماحكة أهل الجهل والهوى ﻷهل الحق حتى يشتد عودهم ويستقيم أودهم في التمسك بالحق والدفاع عنه بين القاسطين المبطلين.
وهذا إنما يحمل العلماء والدعاة على الإمعان والإصرار على الحديث عن إسلامية الدولة ﻷن ذلك هو الأصل التاريخي للدول التي تعاقبت على حكم الأمة، وما يُسمى بالدولة العلمانية أو اللادينية أو الدولة الحديث إنما هو أمر طارئ ودخيل على الأمة وإن تمحل حماة العلمانية أساليب الدعاية وركبوا الصعب والذلول للحديث عن أصالة هذا المفهوم وأنه أصيل وعريق في تاريخ المغرب.
ومن المعلوم أن من سنن تمكين الله ﻷهل الحق في جميع العصور قيام طائفة من أهل العلم والدين لها جرأة وقوة بمدافعة الباطل واقتحام الميادين ومخالطة الناس والصبر على أذاهم، والقيام على ثغور الملة لمراغمة القاسطين، وهو مقام في العبادة أصيل، لا يدرك شأوه الزاهد المتعبد القاعد في زوايا الرهبانية وغثائية الكلام البارد.
ولن يفت في عضد أهل الحق وجود منتهضين معارضين للمشروع الإسلامي ﻷن هذا لم يخل منه عصر من العصور، وما جرى على المسلمين في ظل عتو القرامطة والعبيديين، وتسلط التتار والمغول عليهم وغيرهم ممن رام استئصال الوجود الإسلامي من الأرض خير دليل على أنه هذا الأمر ماض ومستمر إلى يوم القيامة.
فلا خوف على الإسلام وإسلامية الدولة في مجتمعات متدينة بفطرتها، قد تنعق فيها بعض الغربان بأصوات لا تعبر عن ضمير الأمة، وربما تصول وتجول كلما واتتها الصولة واستتب لها أمر الدولة، لكنها لن تغير من الواقع والمآل الموعود للأمة.
“ما ينادي به اليوم دعاة العلمانية من مفهوم الدولة الحديثة التي أنهت علاقتها بالدين والأسطورة كما يزعمون إنما هي أوهام قائمة في نفوسهم، ولو نودي على أمثلهم في سوق السياسة لم يُساوم بدرهم، ﻷنه لا يمثل سوى أصوات ناشزة ترتفع هنا وهناك ولا تجد رواجا في واقع الحال”.
ﻷن الأصل الأصيل لا يمكن أن ينقلب إلى فرع دخيل، إلا إذا أصبح رب الدار سارقا، وانقلب ساكنها الأول غريبا متلصصا، يتسور النوافذ عوض الدخول من الأبواب، والله تعالى يقول: ﴿قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ﴾( 3) .
وقد غر كثيرا من الزاهدين في العمل السياسي فكر التواني باسم سلوك طريق التدرج والتأني الذي حملهم على الجبن والقعود، والتولي إلى الظل، إذ تراهم يستنكفون ويخجلون من الحديث عن قيم الإسلام في مجال السياسة، ويتركون ميادين المراغمة ومواطن النفوذ السياسي للمبطلين يعيثون فيها كيف شاءوا دون مقارعة منافس أو مزاحمة مناوش، في حين ترى شذاذ الآفاق من أهل الأهواء أشد جلدا وقوة في اختراق المواقع والنفوذ إلى ميادين التأثير في المجتمع.
وقد عُلم أن القعود والتولي إلى ظل السلامة وما يمس العاطلين في زوايا الخمول من فتور ومُكث في ذيل القاطرة، أشد خطرا على الجسم الإسلامي مما قد يناله من آثار مزاحمة المبطلين وخوض غمرات المشاركة السياسية إلى جانب المفسدين، وكثيرا ما كان عمر رضي الله عنه يتمثل بقول الشاعر في مقارعة أهل الباطل:
تَعدو الذِئابُ عَلى مَن لا كِلابَ لَهُ ** وَتَتَّقي مِربَضَ المُستأسد الحامـي
2- ما هو دور المجلس العلمي الأعلى، والمجالس العلمية، في الدفاع عن الملة والدين، انطلاقا من نيابتهم عن أمير المومنين في هذا الباب؟ …
الحقيقة أن المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية عموما أصبح لهما دور مهم في حماية الملة والدين والدفاع عن حرمات الإسلام، لاسيما بعد أن أصبح للمجلس العلمي الأعلى مكانة دستورية في الدولة المغربية، والعلماء يجب أن يعوا هذه الحقيقة، وينظروا نظرة شمولية للمهمة العلمية والدعوية المنوطة بهم.
في كثير من النوازل نلاحظ أن جماهير الشعب تنتظر من المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية تنويرها بالرأي السديد في هذه المسائل، نظرا للدور التاريخي الذي عُرف لعلماء المغرب في معالجة كل القضايا التي تحل بالمجتمع.
إذ لا تقتصر هذه المهمة على مجرد الوعظ والتذكير وإرشاد الناس في المساجد، وهذا ميدان مهم وواسع قدمت فيه المجالس العلمية خيرا كثيرا ﻷبناء الشعب المغربي، إذ انتسب إليها كثير من العلماء والفضلاء من ذوي الغيرة على الدين والفاعلية في الدعوة، فلا يخلو إقليم أو مدينة من أنشطة رائدة للمجالس العلمية النشيطة في هذا المجال. والمغرب اليوم في مجال النشاط الدعوي في المساجد أفضل من ذي قبل.
لكن في مجال الحضور الإعلامي في قضايا الشأن العام ومعالجة النوازل الفكرية والسياسية العامة لا يزال دور المجالس العلمية في هذا المجال دون مستوى طموح الأمة، وهو اختيار سياسي اتجهت فيه المجالس العلمية ﻷسباب عدة يعرفها الخاص والعام، منها ارتباط هذه القضايا العامة في شؤون الدين والسياسة بمجال الفتوى الذي تختص به لجنة الفتوى بالمجلس العلمي الأعلى.
وﻷن قوانين العمل مقيدة لحرية الرأي والنشاط باسم المجالس في هذا المضمار، وما يصدر هنا وهناك بين الفينة والأخرى إنما هو اجتهادات شخصية لا يمكن أن تنسب للمجالس العلمية بحال من الأحوال، نأيا بها عن مواطن الصراع مع الأحزاب السياسية والتيارات الفكرية داخل المجتمع، وهي وجهة نظر تحتاج لمزيد من المناقشة وتقليب النظر، بحسب المصالح والمفاسد المترتبة عن توسيع أو تضييق دائرة العمل.
لكنها في نهاية المطاف لا يمكن أن تتسع لاستيعاب عمل كل العلماء المهتمين بالشأن العام والخائضين في السجالات والنقاشات الفكرية والسياسية في المجتمع.
وفي كثير من النوازل نلاحظ أن جماهير الشعب تنتظر من المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية تنويرها بالرأي السديد في هذه المسائل، نظرا للدور التاريخي الذي عُرف لعلماء المغرب في معالجة كل القضايا التي تحل بالمجتمع، ولا يخفى على أحد دور علماء القرويين ورموز الحركة الوطنية في هذا الشأن كالمختار السوسي وعلال الفاسي وشيخ الإسلام العربي العلوي والرحالي الفاروقي وأبي شعيب الدكالي وتقي الدين الهلالي والشيخ عبد الله كنون رحمهم الله جميعا.
وﻷن طبيعة الحياة الفكرية والسياسية الموارة والمتجددة في المجتمع طبيعة لا تقبل الفراغ، فإن الله لا يُخلي عصرا من المهتمين بهذا الشأن ممن يتصدرون وينتصبون لسد ثغرات الخلل الواقع، وإذا لم يتصد العلماء لمعالجة هذه المسائل فسيعالجها المتطفلون، ويخوض فيها غير المختصين من الغوغاء والنكرات فتكون فتنة عمياء قد تأتي على الأخضر واليابس من ثمار العمل الإسلامي.
3- هل ترون أن استغلال السياسة للدين من شأنه أن يخدم إسلامية الدولة؟ …
الحقيقة أن التفريق بين الدين والسياسة هو نزعة علمانية تريد عزل الدين عن واقع الأمة، على ملة «دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر» أو «دع الخلق للخالق، والملك للمالك، فإنه أقام العباد فيما أراد»، والإسلام لم ينفك في يوم من الأيام عن السياسة، وما كانت سياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين وأولياء أمور المسلمين من بعده سوى مدرسة في حل مشاكل الأمة وعلاج أدوائها بأدوية جامعة بين سياسة الدين والدنيا، دون غلو أو تقصير.
ﻷن السياسة الشرعية في غايتها هي تدبير الشؤون العامة للدولة الإسلامية، بما يكفل تحقيق المصالح ودفع المضار بما لا يتعدى حدود الشريعة، وأصولها الكلية.
فلا يمكن أن ينفك الدين عن السياسة بحال من الأحوال بسبب تداخل الشأن العام والخاص في واقع المسلمين وجريان الأحكام الشرعية على كل مناحي الحياة.
والعجيب أن هؤلاء الذين ينادون بفصل الدين عن الدولة لا يفتأون يخوضون في أمور الدين لركوب أمواج السياسة والتأثير على الجماهير باسم الدين الذي يحرصون على إقصائه ويُمعنون في الدفع في نحره في كل الأبواب والمجالات.
وهذا يعود بحمد الله بنتائج عكسية ضد خططهم ومكائدهم، ﻷن فطرة الشعب المسلم التي تعتمل في مكامنه تجعله شعبا لا يمكن أن ينسلخ عن أصالته الدينية، وهذا يدعم منحى إسلامية الدولة، وهو أمر واقع لا محالة ﻷنه وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آت كما في حديث تميم الداري «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
“ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر”. وكان تميم الداري يقول قد عرفت ذلك في أهل بيتي لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافرا الذل والصغار والجزية»(4 ).
أما ما ينادي به اليوم دعاة العلمانية من مفهوم الدولة الحديثة التي أنهت علاقتها بالدين والأسطورة كما يزعمون إنما هي أوهام قائمة في نفوسهم، ولو نودي على أمثلهم في سوق السياسة لم يُساوم بدرهم ﻷنه لا يمثل سوى أصوات ناشزة ترتفع هنا وهناك ولا تجد رواجا في واقع الحال.
﴿والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾.
*********************
1 – حديث حسن أخرجه ابن ماجة ( 4042 ) و الحاكم ( 4 / 465 ، 512 ) و أحمد ( 2 / 291 ) .
2 – (البقرة: الآية251 ) .
3- سورة المائدة الآية 23 .
4 – أخرجه أحمد ( 16998 ) 4\103، والحاكم في المستدرك رقم 8326 وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وابن حبان من حديث المقداد بن الأسود رقم ( 6699 ) ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة : 1 / 32