ينخرط بعض السلفيين الآن في العمل السياسي بنفس حماس وانبهار انخراط شباب الأحزاب الإسلامية منذ عقود، ويتتبعون الآن نفس سنن من سبقهم شبرا بشبر وذراعا بذراع، يكررون أخطاءهم وزلاتهم، وحركاتهم وسكناتهم.
مشكلة بعض السلفيين، أنهم يظلون منغلقين متقوقعين ردحا من الزمن، متموقفين عقديا أو فقهيا أو حتى نفسيا أحيانا من قضية من القضايا، ثم حين يتجاوزهم الزمن فيها، ويكتشفون خسارتهم، يسارعون لتبني تأصيلات من ظلوا لفترة ينتقدونهم، فيعكفون عليها ويعضون عليها بالنواجذ، ويعتبرونها نصرا مؤزرا وفتحا مبينا، سينقذ الأمة من تخلفها وانزوائها.
ذكر لي صديق سلفي ذات مرة، أن بعض السلفيين مسبوقين بعقدين من الزمن، في التعاطي مع القضايا المعاصرة ومشاكل الواقع، لكنني أعتقد أنهم في بعض القضايا مسبوقين بقرن من الزمن.
سبب هذا الكلام الذي قد يعتبره البعض قاسيا، هو ما أتابعه على مواقع التواصل الاجتماعي والنقاشات المباشرة، مع بعض الشباب السلفي المتحول، الذي قزم كل أعمال الإصلاح والتغيير واختزلها في العمل السياسي، ثم اختزل العمل السياسي، في العمل الحزبي، ثم في حزب بعينه، ثم في العملية الانتخابية، معتقدا أن لحظة اكتشافه لهذا المسار، هي لحظة ولادة الأمة، وساعة انطلاقها، فهو من جهة يختزل العمل والنضال والإصلاح في عمل جزئي نتائجه محدودة. ثم هو لا يلتفت للتجارب السابقة، وما راكمه من سبقوه من إيجابيات وسلبيات، وما نبهوا عليه من أخطاء ومنزلقات، فيصر على تكرار أخطائهم، والسير على نفس مسارهم.
ولا بد هنا من التنبيه على بعض النقط، وهي:
أن التحزب المرضي عند بعض المتحولين من السلفية إلى العمل الحزبي، هو نوع من جلد الذات على هذا التأخر في التحول، أو هو إمعان من المتحول، في مخالفة شيوخه وأصحاب منهجه، ممن لم يؤمن بما آمن به وتحول إليه.
أن التحزب المرضي، هو نتيجة لاعتقاد أن السياسة هي التحزب، رغم أن السياسة أشمل وأعم، وبسبب المراجعات الكبرى التي عرفتها الجماعات الإسلامية، نتيجة التحولات التي تعرفها الأمة، حيث كانت بعض التوجهات السلفية، معتزلة للسياسة وقضايا الأمة، ثم حاول بعض أفرادها وشبابها، تدارك الأمر، بالارتماء في أحضان الأحزاب الإسلامية، وتبني أطروحتها جملة وتفصيلا، والاستماتة في الدفاع عنها.
أن من أصل لخيار المشاركة ممن اقتنع بهذا المسار من بعض السلفيين، كان مجرد ناقل لتأصيلات وحجج وأدلة الإخوان المسلمين ومن دار في فلكهم، فلم تكن تأصيلات مستقلة، تستند لفهم سلفي، وتستحضر إخفاقات التجارب السابقة، وتحذر من الوقوع في منزلقاتها، لذلك وجد الأتباع أنفسهم غير مستقلين بفهم واع للمشاركة، فانخرطوا بحماس يشبه حماس من اقتحموا هذا الخيار لأول مرة.
وبالعودة لبعض أساطين العمل الإسلامي، ممن اكتشفوا متأخرين، خطورة الاندفاع في هذا المسار الحزبي الضيق، على حساب واجهات عديدة للإصلاح والتغيير والنضال، فحذروا منه، ودعوا لإعطائه حجمه وحيزه الذي يستحق، والابتعاد عن بيع الوهم لشباب الأمة، وإقحامهم في معارك وهمية تستنزفهم وتسرقهم، نجد أن أولئك الأساطين الذين حذروا من مغبة الإفراط في هذا المسار والإغراق فيه، لم تكن لدعوتهم للأسف أي صدى، ولم تصل صيحات تحذيرهم، آذان الصائحين في الحملات الانتخابية، المنتشين بانتصاراتها.
وأنا لا أتحدث عن دعاة الانزواء والدروشة والسلبية، ممن يعتبرون الاهتمام بأمر الأمة بدعة أو ترفا، أو من اختصاص ولاة الأمور. فهؤلاء خارج نقاشي واهتمامي. حديثي عن من جرب هذا الطريق وكانت له بصمته وأثره، ثم بدا له أن الإفراط فيه خطر محدق، وأمثل بمثالين اثنين:
حسن البنا رحمه الله، الذي قال قولته المشهورة التي تواترت عنه: “لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما دخلت الانتخابات، ولا أقحمت الجماعة في السياسة”، أو “لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لرجعت بالجماعة إلى أيام المأثورات”. ومعناهما واحد، ويمكن أيضا الجمع بينهما، فيحتمل أنه قالهما معا.
صلاح أبو إسماعيل، خاض التجربة البرلمانية بحماس، معتقدا أنه بإمكانه إحداث شيء من التغيير والإصلاح، لكنه بعد مدة تراجع عن حماسه، بعد أن اصطدم بالواقع وإكراهاته، والتحالفات وألاعيبها، والأحزاب ونفاقها. نقرأ من كتابه “الشهادة” هذه المقتطفات: “حين رشحت نفسي لعضوية مجلس الشعب كنت أبحث عن أسلوب جديد لإعلاء كلمة الله جل علاه بتطبيق الشريعة الإسلامية”.
“لقد كان شعاري مع أهل دائرتي أعطني صوتك لنصلح الدنيا بالدين، وكنت أظن أنه يكفي لإدراك هذه الغاية أن تقدم مشروعات القوانين الإسلامية، لكن تراءى لي أن مجلسنا هنا لا يرى لله حكما إلا من خلال الأهواء الحزبية”.
“ثم قلت للمجلس لقد وجدت طريقي بينكم إلى هذه الغاية طريقا مسدودا، لذلك أعلن استقالتي من مجلس الشعب، غير آسف على عضوية المجلس”.
فريد الأنصاري رحمه الله، الذي تحدث في كتابه: “الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب”، عن ما أسماه باستصنام الخيار المنهجي لدى الحركة الإسلامية في المغرب، بالقول: “تعيش الحركة الإسلامية بالمغرب- كما في بعض الأقطار الأخرى- أزمة حقيقية، أزمة ترجع بالدرجة الأولى إلى كونها صارت عاجزة عن أداء وظيفتها الحقيقية، والقيام برسالتها الربانية، التي كانت هي مبرر وجودها، وشرط ميلادها، ثم مسوغ إقبال الناس عليها في مرحلة سابقة”.
ثم تحدث في الفصل الأول عن استصنام الخيار الحزبي فقال: “ما أن أمضت الحركة الإسلامية قرار “المشاركة السياسية” حتى تطور ذلك القرار بشكل سرطاني -باندفاع ذاتي، ودفع من جهات أخرى- من مجرد “مشاركة” إلى صورة “تضخم سياسي”، أتى على الأخضر واليابس من منجزات العمل الإسلامي، في موارده البشرية ومكتسباته الدينية في المجتمع”.
ونختم بهذا المقطع من كلامه، “ثم إن الاستصنام الحزبي جعل كثيرا من أبناء العمل الإسلامي منشغلين بهموم الناس الدنيوية فقط، ثم جعلوا -بعد ذلك- لهمومهم الشخصية من تلك الهموم حظا، وتدافع الهم الشخصي مع الهم العام في مقاصد بعضهم، فتكون الغلبة لهذا تارة وتكون لذاك تارة أخرى، على قدر قوة الإيمان وضعفه في نفس صاحبه مدا وجزرا، فانخرطوا بذلك -على كل حال- في بناء خطاب مادي بالدرجة الأولى، يحلل الأزمات الاقتصادية ومشكلات البطالة، والرد السياسي على الهجومات الإلهائية، التي تصدر عن بعض متعصبي اليهود والنصارى، أو عن بعض زنادقة المسلمين، فيخرجون المظاهرات وينظمون المسيرات ثم يؤوبون في المساء إلى مواقعهم سالمين مطمئنين إلى أنهم قد أنجزوا من “النضال” ما يشفع لهم عند الله يوم القيامة، عندما يسأل الناس عن دينهم ماذا فعلوا فيه، ونسوا القضية الكبرى: قضية الإنسان مع خالقه ومصيره في آخرته! كيف كان في عبوديته؟ أمن الأوابين التوابين أم من الآبقين الشاردين؟”.
اقتصرت على هذه الأمثلة، لثلاث رجال لايمكن المزايدة عليهم ولا على تجربتهم، علها تنبه شبابنا المندفع، ليأخذ مسافة من هذا المسار، ويتعامل معه بالاحتياط اللازم والحذر الواجب والحكمة المطلوبة، دون إفراط ولا تفريط.